كم امتحان ثانوية عامة تم تسريبه هذا العام؟ هل فكرت فى إجابة هذا السؤال الذى تمت كتابته، فيما يبدو، «بالمقلوب»؟ فالصحيح كم امتحان ثانوية عامة لم يتم تسريبه؟ قفزتْ على أفكارى هذه الخاطرة وأنا أسترجع شريط ذكريات الأيام الماضية التى تصدر خلالها خبر «تسريب امتحان مادة كذا» صفحات الجرائد والمواقع الإخبارية كأنه أصبح أمرًا عاديًا، ربما نشعر بالانزعاج لو لم نقرأه فى أحد الأيام.
وقد اكتظت وسائل الإعلام، مقروءة ومسموعة ومرئية، بآلاف التحليلات والتشريحات والتنظيرات حول أبعاد الكارثة التى نحن بصددها إلى الحد الذى دفع أحد الكتاب إلى وصف القضية بمصطلح «محنة الثانوية العامة»، مستدركًا ومؤكدًا أنها ليست محنة الثانوية العامة وحدها، إنما هى محنة النظام التعليمى برمته، بل هى تمتد للأسف لتكون محنة مجتمعية.
وربما لم يبالغ الكثيرون حين حذروا من أن هذه الكارثة تهدد الأمن القومى، أو الدولة المصرية بصورة محددة.. كما استخدم البعض وصف «فضيحة الثانوية العامة» للدلالة على خطورة وفداحة ظاهرة التسريب وعجز وزارة التعليم عن تأمين امتحانات مرحلة مفصلية فى حياة الشباب والمجتمع تلك التى ينتقل فيها من التعليم الثانوى إما إلى إحدى الجامعات أو المعاهد وإما أنه سيخوض غمار المواجهة مع سوق العمل فى ظل ظروف لا تخفى على أحد مدى قسوتها وعثراتها.
وعلى مدى السنوات الأربع الماضية اعتاد موقع «شاومينج» الصينى تسريب الإجابات خلال الامتحان، للسماح للطلاب بالغش من خلال هواتفهم المحمولة، رغم الحظر المفروض على دخولها الامتحانات، وفى تطور مدهش لجهود «الغش» هذا العام.. نشرت «شاومينج» الامتحانات والأجوبة قبل بدء الامتحان.
ولمن لا يعرف.. فإن «شاومينج» مجموعة من الطلاب الذين يستخدمون «فيسبوك» وغيرها من صفحات الإنترنت لمساعدة الطلاب على الغش، والسخرية من وزارة التعليم.. لذا فليس مستغربًا أن بعض صفحات الغش تقول إنها تهدف إلى إحراج وزارة التربية والتعليم، ولتغيير النظام التعليمى فى مصر.
ظاهرة تسريب الامتحانات على هذا النحو فتحت الباب واسعًا للحديث عن تدنى جودة التعليم فى مصر، كما كشفت عجزا ليس في الوزارة فحسب، بل في الحكومة ككل فى وقف حرب «تغشيش الطلبة».
ولأننى من أعداء الاستسلام فلن أزرع اليأس فى نفوسكم أو أقول على الدنيا السلام.. بل أدعو إلى أن تكون هذه المحنة، أو الفضيحة، أو الكارثة- سمِّها كما تشاء- نقطة انطلاق ثورة إصلاح منظومة التعليم فى مصر التى تعتمد على نظام الحفظ والتلقين لا الفهم والابتكار!
ولنا أن نتصور لو كنا نعتمد فى امتحاناتنا على الإبداع.. فهل سيكون هناك مجال لنشر إجابات «قص ولزق» لا تظهر فيها أى سمات فردية تميز بين طالب وآخر على أساس معيار تقييم موضوعى لا يعتمد على «الحشو» قبل الامتحان ثم «التفريغ» بعده مباشرة، ليخرج لنا جيل لا يعرف كيف يفكر أو يتصرف؟ وبالتالى سيكون عاجزًا عن مواجهة تحديات الحياة، بل قد يضيف إلى قائمة الجهلاء أسماء جديدة.
وأنا أستغرب أحوال هؤلاء المسئولين الذين اعتادوا إهدار الطاقات وتضييع الفرص، وخير دليل على ذلك ما جرى بعد جولة الرئيس عبدالفتاح السيسى الآسيوية التى اختتمها بزيارة اليابان، وتم خلالها الاتفاق على تفعيل التعاون المشترك بين البلدين، خصوصًا فى مجال التعليم، على أن تتم الاستفادة من «التجربة اليابانية» فى النهضة والريادة.. وقتها استبشرنا خيرًا على أمل أن يتلقف مسئولو التربية والتعليم هذه الخطوة المهمة، لتصويب ما يجب تصحيحه ونسف المناهج العقيمة التى لا تنتج إلا أنصاف متعلمين وحديثًا «كبار الغشاشين».
إن بناء المجتمعات ونهضتها العلمية والاقتصادية إنما تقوم على إصلاح نظم التعليم وتطويرها بما يخدم احتياجات المجتمع ويساير روح العصر.. ودون ذلك لن نتقدم شبرًا واحدًا.. فلا سبيل أمامنا سوى العلم كأسلوب حياة.