تلقيت على بريدى الإلكترونى عددًا من الرسائل، تباينت خلالها المواقف والآراء، فيما يتعلق بما جاء فى مقالى المنشور قبل أسبوع بعنوان «كلنا فاسدون»، لا أنكر أن بعض تلك الرسائل، جاءت كاشفة عن الإقرار به وحملت الرغبة الملحة فى مواجهته ومحاربته، باعتباره لا يقل خطرًا على مسيرة البلاد من الإرهاب، فكلاهما يعوق خطوات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، كما أننى لا أنكر أيضًا أن بعض الرسائل، جنح أصحابها نحو التطرف والحماقة والشذوذ الفكرى فى التعبير عن وجهات نظرهم، اعتبروا أن تطبيق القانون على ابنة «هشام جنينة»، والإعلان عن قرار عزلها من منصبها بإحدى الهيئات القضائية، نوع من تصفية الحسابات بين النظام الحاكم ومعارضيه، مشيرين إلى أن ما جرى معها مرتبط بأوهام الانتقام من والدها، دون إدراك من جانب أصحاب تلك الرؤية ومروجوها على صفحات التواصل الاجتماعى، بالفروق الجوهرية بين ارتكاب الجرائم التى يعاقب عليها القانون، والمعارضة لسياسات الدولة والنظام الحاكم، أو توجيه الانتقادات للسلطة مهما كانت درجة حدتها، وكلاهما المستشار الأب والمستشارة الابنة خرجا عن الواجبات الوظيفية للتحريض على إشاعة الفوضى فى البلاد، عبر تصريحات غير مسئولة من الرجل الذى كان يتولى المسئولية على رأس أكبر الأجهزة الرقابية فى الدولة المصرية، وتغريدات مغرضة من سيدة تشغل موقعًا مهمًا فى إحدى الجهات القضائية، وفى هذا السياق لن أقترب من مساحة التشكيك فى شغلها للوظيفة فى ظل نفوذ الأب. أما هؤلاء الذين تجاهلوا عمدًا أنهم غارقون فى مستنقع الفساد لـ«شوشتهم» بتلك الرؤى الفوضوية، فهم يكيلون بمكيالين حسب الهوى، فهناك صمت من جانبهم أمام محاكمة الأفراد العاديين المتورطين فى بعض الجرائم، يقابله صراخ وعويل عندما يتعلق الأمر بغيرهم ممن ينتمون إلى جماعات وتنظيمات وحركات حال محاكمتهم فى ذات الجرائم.
ما جاء فى الرسائل حفزنى للعودة مرة أخرى إلى الحديث عن الفساد الذى نخر كالسوس فى بنيان الدولة، وصار وباءً أصابت عدواه غالبية فئات المجتمع، وأمست شرائحه المتنوعة جزءًا من مكوناته، بل طرف أصيل فى معادلة التعايش معه، باعتبار أننا جميعًا « فاسدون» كل منا يمارسه حسب قدراته وإمكانياته، نطلق عليه مسميات براقة خادعة، نبرره لأنفسنا عندما يتسق مع أهوائنا، ويحقق لنا مصالحنا، ونكيد به السلطة إذا تعارض مع رغباتنا.
هذه الحقيقة الساطعة مثل الشمس، كافية للجميع، أو على الأقل للمهمومين بالشأن العام، أن يصطفوا وراء أصحاب الضمائر اليقظة ويتكاتفوا مع الأجهزة الرقابية، للمشاركة فى الحرب ضد الفساد والعمل على كشف الفاسدين وتجريسهم بكل الوسائل،أيا كانت مواقعهم فى السلم الوظيفى أو مراكز النفوذ داخل مؤسسات الدولة، فالتجريس هو إحدى وسائل العقاب الشعبى، فضلًا عن أنها فريضة وطنية .
لو اتفقنا جميعًا على المبادئ الأساسية لمواجهة العبث، سنضع حدّا للهوس المتداول، حول محاكمة هشام جنينة على تصريحاته التى قال فيها إن فاتورة الفساد فى مصر، بلغت ٦٠٠ مليار جنيه خلال الفترة الأخيرة فى إشارة من جانبه ـ أظن أنها مقصودة ـ لاتهام النظام الحاكم حاليًا.
علينا أن نتوقف قليلًا، ونضع كل ما هو متاح أمامنا من معلومات متداولة، للتعامل مع القضية بقدر من الموضوعية حتى لا تتوه الحقيقة فى زحام الضجيج المصاحب لمحاكمة المستشار هشام جنينة وعزل ابنته من إحدى الهيئات القضائية، مرورًا بحقيقة الأرقام التى أدلى بها للصحف ومدى مصداقيتها.
المبالغ الضخمة التى ذكرها رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات، لا يقبلها العقل ولا تتسق مع المنطق، خاصة إذا علمنا أن حجم الموازنة العامة للدولة لا يزيد على ٨٠٠ مليار جنيه، معظمها يذهب لبند الأجور وسداد فوائد الديون الداخلية والخارجية، والباقى يذهب لدعم السلع الأساسية والطاقة والخدمات «الصحة والتعليم»، والاستثمار فى البنية التحتية والمرافق وخلاف ذلك من الأمور التى تلتزم بها الحكومة تجاه المجتمع، فضلًا عن خطط التنمية.
لذا يصبح التساؤل فى هذه الحالة أمرًا ضروريًا، من أين جاء «جنينة» بهذه الأرقام الضخمة والمفزعة، بل والمحرضة على إشعال الغضب الشعبى فى وجه سلطات الدولة والخروج عليها.
من المؤكد أن رئيس الجهاز الرقابى كان يدرك خطورة وتداعيات تصريحاته على سمعة الدولة، ومدى تأثيرها على الرأى العام، كما يعلم أنها ستكون الأساس والمرجعية التى تتلقفها المنظمات الدولية، مثل الشفافية والبنك الدولى وغيرهما، لإدانة النظام الحاكم فى الأوساط العالمية بهدف عزله، بعد تقديمه كنظام راعٍ للفساد .
هو كان يعلم أن الإرادة السياسية للقضاء على الفساد ومحاكمة مرتكبيه، أصبحت معلنة رسميًا، وأن الرئيس عبدالفتاح السيسى، أعطى الصلاحيات الكاملة للأجهزة الرقابية لأعمال القانون ضد أى مسئول، ولنا فى الواقع شواهد كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر، قضية فساد الزراعة وقضية فساد الصحة، فلماذا لم يتقدم رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات باتهامات مباشرة ضد مرتكبى وقائع الفساد وإبلاغ الجهات القضائية عنهم، وتحديد أسمائهم، وفق سلطاته الدستورية والقانونية، هو لم يفعل ذلك، لكنه أراد أن يقدم من خلال موقعه خدمة جليلة لجماعات الفوضى، بهدف استثمارها، بل إنه تدنى بهيبة الجهاز الرقابى لاكتساب بطولة وهمية يتغنى بها بنى عشيرته، عبر إطلاقه تصريحات إعلامية يوحى ظاهرها بالطهارة والقدرة على المواجهة، أما باطنها فله مآرب أخرى.
هو تحدث عن الفساد على إطلاقه، دون تحديد المسئولين عن الجرائم، بما يشير إلى أن مراميه توافرت لإثارة اللغط، فالتصريحات لم تحمل اتهامات مباشرة لأشخاص بعينهم، لكنها جاءت عشوائية، وبالطبع لا يمكن تصور أن رئيس جهاز المحاسبات لا يعرف المعنى الحقيقى للفساد.
لذا يصبح من الضرورى للكافة الصمت وانتظار حكم القضاء لحسم هذه القضية ومعرفة الحقيقة المرتبطة بالمعلومات الكارثية، التى لا يستطيع أحد إنكار أنها أثارت جدلًا واسعًا فى أوساط الرأى العام، كما أنها ساهمت بصورة أو أخرى فى فتح الباب أمام التكهنات حول مرامى جنينة، وهى التى حملت تساؤلات، مفادها هل ينقلب السحر على الساحر، فما أراد أن يدين به رئيس المركزى سلطات الدولة، صار هو المتهم به، وأصبح مطالبًا بإثبات صحة ما قاله أمام القضاء، وليس فى وسائل الاعلام كما فعل . فى النهاية أود القول بأن المطالبين بعدم محاكمة جنينة فاسدون، والذين يرفضون قرارات مجالس التأديب القضائية بعزل ابنته، فاسدون أيضا،الأمر هنا ليس فيه تجنٍ أو رغبة دفينة بقدر ما هو نوع من إعمال القانون وإنفاذه على الجميع، كى تتطهر كل المؤسسات ممن يخلطون الخاص بالعام.