مازلت أذكر تلك اللحظة كأنها بالأمس. كانت التيارات السلفية قد اغتالت الرئيس السادات منذ أقل من عام، وكانت توقعات البعض أن هذه مجرد البداية، وكنت أقيم لثلاثة أشهر فى الإسكندرية حيث تعرض مسرحيتى (أنت حر). أقيم وحدى فى شقة مرتفعة على شاطئ البحر. كان الوقت غروبا وكنت مكتئبا. ولا عجب فقد كان اليوم عيد ميلادي!
وهكذا تضافرت كل الأسباب لكى تدفع سحب الهواجس أن تمطر، وفى دقيقتين تحولت إلى فكرة واضحة تسطع كسطوع الشمس يلتهب بها رأسى محملا بإحساس قوى يجيش به فأكاد ألهث من شدة وطأته قفزت إلى مائدة الطعام، وكتبت أعلى الصفحة كعادتى تاريخ اليوم ١٨ أغسطس ١٩٨٢ وفى دقيقتين دونت الفكرة فى صفحة واحدة عن شخص يجد نفسه بطريقة وقد سقط فى بئر الماضى ويضطر فى البداية أن يخفى حقيقته وقد سقط فى بئر الماضى، ثم ما يلبث أن يجد نفسه مضطرا إلى نقل ما يعرفه عن المستقبل للناس لكى يعملوا على تغييره إلى الأفضل. لكنهم لا يصدقونه.
وسرعان ما كتبت بعد سطور: (بئر الماضي).. هذا هو اسم المسرحية!
هل الكتابة وسيلة لمقاومة الاكتئاب والوحدة ؟
هل هى محاولة لمحاربة شيطان العبث الذى يوسوس فى صدور بعض
الناس من أمثالي؟. هل حاولت أن أؤكد لنفسى وقد مضت سنة أخرى من عمرى أنى مازلت قادرا على كتابة مسرحية جديدة؟.
هل رأيت فى نفسى ذلك الشخص الذى سقط فى بئر الماضى؟ ولكى أرضى غرورى وأقاوم خوفى جعلت من شخصى بطلا وتظاهرت بالشجاعة فهزمته على الورق وكأنى أستخف حتى بالهزيمة!
كل هذه الأسئلة لم تدر بفكرى ساعتها لكننى أعتقد أن الدافع العام وهو رؤيتى لزحف التيارات السلفية على مجتمعنا لا يكفى وحده دافعا لكتابة مسرحية بكل ما يعنيه ذلك من معاناة. وإنما لا بد أن يجتمع الدافع العام مع حاجتك النفسية. أن تصبح أنت المسرحية. والمسرحية بعضا منك.
لكن بمجرد أن دونت الفكرة برد إحساسى تدريجيا، قرأت ما كتبت ثم قلت بخيبة أمل: لا ليست هذه المسرحية التى توهجت فى رأسى. إنها فكرة ناقصة ومخلة ومشوهة مما خطر لى وجاش به إحساسى. لكن ما كان يواسينى أن هذا الأمر يتكرر مع كل فكرة جديدة.
فإذا تمت الفكرة أتوهم أننى لم أخلقها ولكننى حلمت بها وأن هذه المعاناة الطويلة ليست إلا محاولة متعسرة لتذكر شتات هذا الحلم الضبابى الذى برق فى رأسى كالشهاب ذات غروب ولم يستغرق إلا دقيقتين.
هل استطعت أن أنقل للورق تلك الشحنة من الأحاسيس وذلك الدفق العقلى من الأفكار والصور التى تزاحمت على رأسى لحظتها؟.
قررت منذ فترة طويلة أن أتجاهل السؤال بأن أؤجله لمسرحية أخرى فالإجابة بنعم ولو لمرة واحدة تنهى اللعبة. وأنا أعتقد أننا كى نواصل الحياة يجب ألا نتوقف لحظة عن اللعب أبدا.. بجدية!
أخذت وقتا طويلا لكى أكتب هذه المسرحية. وعلى فترات متتابعة ليس فقط لأنى كنت أراجع تاريخ قرنين من حياتنا. وما كان يحدث فيهما فقط. ولكن لأننى كنت مشغولا بالفرقة التى أسستها مع صبحى ولأن المسرحية تحتاج إلى بطلين معا بينما كانت مسرحياتى تدور حول بطل واحد دائما وهو شريكى محمد صبحى فى الإنتاج، ولهذا السبب لم أكلمه فى هذا العمل. وفى نفس الوقت لم يحدث أن تقدمت للمسرح القومى أو غيره من مسارح الدولة. ثم حدث أن تولى محمود ياسين إدارة المسرح القومى الذى أخذ رقم تليفونى من شاكر عبد اللطيف واتصل بى يبحث عن مسرحية يفتتح بها إدارته. ولم أكن على صلة به من قبل. وقلت له إن عندى مسرحية أعمل فيها من وقت لآخر لكنها لم تنته بعد. فطلب منى أن أنتهى حتى تكون أول أعمال المسرح فى عهده، قلت له: قد أحاول هذا. فقال لى إن عنده مسرحية مكتوبة بالفعل ليوسف إدريس لكنه يريد أن يبدأ بمسرحيتى، لأنها ستأتى بالجمهور وبعدها يعرض مسرحية إدريس وهو مطمئن، قلت له إننى لا بد أن أكون راضيا عليها تماما وبالفعل أعد ت الكتابة عدة مرات وفى آخر مرة طالبنى بالمسرحية قلت له أن يبدأ بمسرحية إدريس أولًا. وبالفعل بدأ بها.
وكان أثناء ذلك يتصل بى مرات ورشح لإخراجها الأستاذ سعد أردش وبالفعل جاء لى وقرأت عليه بعضا من المسرحية، فأعجبته ولكنه قال إن بها سخرية من اللغة العربية!. فدهشت، ولكنى لم أقل له شيئا وأدركت أنه ليس الرجل المطلوب للمسرحية.