تحول
الإعلان التليفزيوني في السنوات الأخيرة إلى حدث كبير.. يتجاوز فكرة تحقيق مكاسب
مالية لصاحبه، أو وجود إعلامي وسيطرة على سوق سلعة بعينها.. تجاوز كل ذلك إلى أنه
أصبح مرآة كاشفة لحالة اجتماعية تتطور من عام إلى آخر.. وربما يتبرع أحد أساتذتنا
من كوادر كلية الإعلام لدراسة ذلك والخروج بنتائج قد تفيدنا فيما هو قادم.
ولو
بصينا بهدوء إلى السنوات الخمس الأخيرة، وبالذات في الموسم الرمضاني- وهو الأضخم في
سوق الإعلانات- سنجد أن شركات الموبايل هى الأكثر قدرة على التواجد والسيطرة وحصد
النجاح.. وهى الأغلى في الصرف على منتجها الإعلاني، (تجاوز الخمسين مليون جنيه في
أحد إعلانات هذا العالم).
هذه الصدارة
تحيلنا قطعًا إلى سوق الاتصالات وتجارة الهواء، وما قدمته لمصر في سنواتها العشرين
وما جنته من مليارات دخلت جيوب أصحابها.. وقطعًا أنا لا أدعو إلى الماضي والعودة
إليه لأنه قطعًا لن يحدث.. وليس بيني وبين شركات الاتصالات عداوة.. لكنها نموذج
وقح للرأسمالية الجديدة.. التي تستغنى تماما عن أي علاقة ببناء الأفراد والأوطان.
شركات
الاتصالات حتمًا حرة.. طالما أنها تدفع ما عليها من ضرائب ولا تمارس أعمالاً
مخالفة للقانون.. لكنني فقط أشير إلى نوع الاقتصاد الذى ذهبنا إليه بأرجلنا..
ذهبنا إليه حبوًا، وأدمناه ولم نعد نملك القدرة على الاستغناء عنه، وصارت أغلى
أمانينا هى تقنينه فقط ووضع سياسات تجبره على مشاركة مجتمعية أظنها أقرب إلى
التسول والشحاتة فقط، ولا علاقة لها بما يحدث في كل العالم من تخصيص نسبة عادلة من
الأرباح للأنشطة الأهلية الاجتماعية.
المهم..
لما كنا عيال، كان الواد حسين اللي بيروح يجيب «ريري» هو الأشهر فى عالم
الإعلانات.. ثم صار «حسانين ومحمدين» في زمن محاولة «تحديد نسل المصريين».. ثم صار
الشيخ الشريب وإنجرام (بتاع حسن شحاتة والخطيب) - على فكرة الاتنين رحبوا يعملوا
إعلانات لأحد البنوك - وبينما كانت فيه الإعلانات مجرد هوامش قبل المباراة وبين
الشوطين قبل المسلسل.. صارت الآن هى المسلسل نفسه.. ولأن الإعلان توغل وصار صاحب
العزبة واللي فيها، أصبح يتحكم فى أسعار المسلسلات ونجومها وقنوات عرضها كمان..
صرنا جميعا سلعة فى سوق الإعلانات.. والأخطر أننا ومقدراتنا وأحلامنا ربما نصير
سلعة لا قيمة لها فى القريب العاجل عندما تحل شركات الإعلان بديلاً عن «وزارة
الإعلام»، تضع لنا السياسات والتوجهات وتمارس عمليات السيطرة على التفاصيل حتى
تنهى ما تبقى من روح فينا وفى إعلامنا.
من هذه
الزاوية أستعجب من الذين رصدوا زيادة جرعة «القباحة» في إعلانات الموسم الرمضاني -
وبخاصة على ألسنة الأطفال - وأظن أن ذلك سيزيد طالما أنه لفت الأنظار وحصد
الملايين.. ونسب المشاهدة في هذه السوق لا تكذب.. وأستعجب أكثر من عدم اهتمامهم في
المقابل بنجاح مبهر لإعلان إحدى شركات الاتصالات.. ليس بسبب كم النجوم المشاهير
فيه من وجهة نظري.. ولكن بسبب صلاح جاهين وسيد مكاوي وعملهما المبهر «الليلة
الكبيرة».
لماذا لم
يتوقف أحدهم أمام سر استمرار هذا العمل كل هذا العمر.. سواء فى صيغته التليفزيونية
الشهيرة.. أو في نسخته المسرحية بمسرح الأطفال؟.. لماذا يستمر هذا النجاح
والارتباط بتلك الكلمات وذلك النسيج الموسيقى المدهش لعمنا الشيخ سيد مكاوي.. حتى
يصل الأمر إلى أن أهم شركات الإعلانات لا تجد سواه لتعيد تقديمه في كلمات تسوق
لفكرتها ومنتجها؟
السر من
وجهة نظري في تلك «الحالة» التي صنعتها المؤسسة الثقافية في فترة عبدالناصر، تلك المؤسسة
لم تكن تعمل من فراغ.. كان وراها «دماغ» يعرف أن أطفالنا هم أهم ما فينا وأن العمل
الثقافي «ضفيرة واحدة».. فأنتجت مسرحًا للأطفال.. وكان هناك مسرح العرائس
بالعتبة.. بالتوازي مع مؤسسة السينما.. ومشروع الألف كتاب.. والثقافة الجماهيرية.
سيقول
أحدهم.. إن كل هذه العناصر ما زالت موجودة.. ولدينا آلاف من قصور الثقافة وعشرات
المسارح للأطفال والكبار.. ومئات الأفلام والمسلسلات.. هذا صحيح.. لكن «فين الدماغ»..
ما هى الرؤية التى تسبق التخطيط.. ولماذا نخطط.. ولحد فين وبكام.. وكيف نستطيع أن
نحول الأحجار التى نبنيها بمئات الملايين إلى «حالة» على طريقة «الليلة الكبيرة».
كل هذا
مش مجرد كلام.. ده شغل.. وشغل بجد.. وليلة كبيرة لا يستطيعها إلا من «يعرفون»..
و«يبدعون».. مش مجرد ناس ما عندهاش حاجة غير أنها تسرق حالة غيرها وتركب عليها
كلاما نعتقد أنه جديد، كما حدث في الإعلان إياه!!.