واقعة تسريب امتحانات الثانوية العامة، أكبر من جريمة، وليست أقل من فضيحة سياسية وأمنية، بكل ما تحمله الكلمة من دلالات ومعان، هي كافية لإقالة الحكومة بأكملها وليس وزير التربية والتعليم وحده، إن لم تبادر هي بتقديم استقالتها، لو كان لديها فهم لحدود المسئولية السياسية والأخلاقية تجاه المجتمع، أو كان لديها قدر من الشجاعة الأدبية لتحمل تبعات تلك الجريمة، لكنها لم تفعلها، ويبدو أنها لن تفعلها، بل راحت تبحث عن وسائل للتعتيم على الجريمة ذاتها باصطناع أزمة جديدة، عبر الإعلان عن نيتها تغيير أسلوب القبول بالجامعات، بديلا لمكتب التنسيق، ظنا منها أن هذا التوجه سيريح الرأى العام، دون إدراك من جانبها أن مجرد التفكير في مناقشة هذا التوجه، يساهم في ترسيخ ثقافة الفساد، فضلا عن إهداره مبدأ تكافؤ الفرص بين أبناء الشعب، فإلغاء مكتب التنسيق سيفتح الباب واسعا أمام تنامى ظاهرة المجاملات والوساطات والرشاوى، وغير ذلك من الأمور التي نجنى ثمارها وندفع ثمنها، خصوصا إذا توافرت لدينا شجاعة الإقرار بأن الفساد نخر كالسوس في بنيان وأركان العديد من الوزارات والهيئات التنفيذية، والأخرى المعنية بالمتابعة والرقابة.
هذه الواقعة تتجاوز أي حديث عن الإهمال الوظيفى سواء داخل المطابع السرية أو الكنترولات، وتمتد إلى مناح تخص الأمن القومى وتتعلق بنشر العبث في أرجاء البلاد، فتسريب الامتحانات يندرج ضمن مكونات الفوضى لإرباك الدولة وإحداث صدمة لدى الرأى العام، كما يترتب عليها فقدان الثقة في أجهزة الحكومة، لذا يصبح من الضرورى امتلاك شجاعة الاعتراف بحجم الجرم وتداعياته، والاتجاه الفورى نحو إلغاء الامتحانات برمتها، بدلا من الاستسلام للحلول الطارئة، الناتجة عن خلفيات الأزمات.
لكن المثير للدهشة هو الاستهتار بما جرى، وحصر الأمر في دائرة ضيقة، مفادها بأن الأمور تم تداركها بالتصحيح العشوائى لعينة من أوراق الإجابات، كأن المصححين لديهم براعة تحديد الغشاش من غيره. الاستهتار تجلى أيضا بتبارى من يزعمون أنهم خبراء في جميع مناحى الحياة، الجاهزون دوما للإدلاء بدلوهم في كل القضايا الكونية، هؤلاء يحاولون «الطرمخة» على القضية برمتها، رغم مخاطر تداعياتها على مستقبل هذه البلد، عبر توجيه الاتهامات إلى جهات أجنبية، هي من تقف وراء تسريب الامتحانات، هذه التبريرات لو صحت فهى تدين أجهزة الدولة أكثر من إدانة المتربصين بنا، وعليها أن تتحمل مسئولياتها السياسية والأدبية والأخلاقية تجاه ما جرى، ولنا في وقائع التاريخ ما يحرضنا على الصراخ في وجه الحكومة، خصوصا فيما يتعلق بتسريب امتحانات الشهادات العامة، فهى ظاهرة عالمية ولم تحدث في مصر وحدها دونا عن سائر البلدان الأخرى، لكن في البلاد الأخرى تحدث بصور فردية، ويتم التعرف على المتورطين فيها بسهولة، بخلاف نشرها على الشبكة العنكبوتية على عينك يا تاجر.
في هذا السياق علينا الإقرار بجملة من الحقائق، مفادها بأن تسريب امتحانات الثانوية العامة في مصر لم يكن جديدا بالمرة، لكن الجديد هو تداوله بهذه الطريقة الفجة التي تفتح باب المخاوف على مصراعيه. حيث تم تسريبها بمعرفة الدولة العبرية عام ١٩٦١، حينها بث القسم العربى بالإذاعة الإسرائيلية مادتين من الامتحانات تم الحصول عليهما من موظفين عاديين يعملان في المطابع السرية، وجرى التحقيق، إلا أن الرئيس جمال عبدالناصر، أصدر تعليماته بإلغاء الامتحانات بأكملها سواء المواد المتسربة أو غيرها من المواد الأخرى، وبالفعل تم تحديد موعد آخر لإجرائها في أجواء آمنة محاطة برقابة صارمة، رغم أن الحكومة وقتها حاولت بشتى الطرق التقليل من حجم الفضيحة، بالتبرير أن الأمر ليس فيه اختراق استخباراتى من جانب إسرائيل، بل نوع من التصرف العفوى غير المقصود من موظفين عديمى الخبرة، لكن عبدالناصر ضرب بكل التبريرات الواهية عرض الحائط وانتصرت إرادته السياسية، ومن وقتها أصبحت الإجراءات صارمة.
هل ما جرى له علاقة مباشرة بحروب الجيل الرابع، واستخدام أدوات التقنية الحديثة، أم أن هناك قوى متوغلة داخل المؤسسات وتقوم بتنفيذ أجندات معينة، مثل الإخوان الذين اتهم مستشار وزير التربية والتعليم بقدر من السذاجة المفرطة، إذا كانت هذه القوى موجودة فعلا، ألم يكن هذا بمثابة إدانة واضحة لأجهزة الدولة، وتعبيرا صارخا عن فشلها، دون إدراك بأن الاكتفاء بالعويل والصراخ جريمة أكبر. فقبل أن نفيق من صدمة تسريب الامتحانات، داهمتنا صدمة أكثر ضراوة وبشاعة من الأولى، هي ظاهرة الغش الجماعى في العديد من اللجان، خصوصا المناطق النائية، البعيدة عن عيون الرقابة ووسائل الإعلام، وهى الظاهرة الكاشفة عن عدم قدرة المسئولين على إدارة الامتحانات ضبط اللجان والسيطرة عليها، مما أدى إلى استقالة رئيس إحدى اللجان في أسيوط وإعلانه بصراحة عن أسباب استقالته، تلا ذلك بيان من الوزارة أنها استبدلته لعدم قدرته على منع الغش باللجان، وفى الحالتين تجسد الاعتراف من الطرفين «رئيس اللجنة والوزارة» بوجود حالات غش جماعى، فضلا عن تشكيل لجان خاصة لأبناء المحظوظين، ممن نشروا ثقافة الفساد والفوضى داخل المجتمع طوال العقود الأربعة الماضية.
على خلفية هذه القضية، علينا أن نقر بالحقيقة، ومفادها بأن الفساد لا ينمو إلا في بيئة يتراجع فيها القانون أمام سطوة المحسوبية، لذا فإن الحد من هذه الفوضى يحتاج إلى إرادة حقيقية، ولن يكون هناك إصلاح على المستويات كل، دون وضع إستراتيجية جادة للقضاء على الفوضى خصوصا في مجال التعليم.
غير أن الحديث عن تقديم أصحاب الصفحات التي نشرت الامتحانات للمحاكمة، أمر يشى بأن هناك رغبة في «الطرمخة» على الجريمة، بهدف إنقاذ رقاب كبار المسئولين، كما أن الحديث عن اتهامات الموظفين، وإن كانت هناك ضرورة لمحاكمة المتورطين منهم، أمر لا يتسق مع المسئولية السياسية، باعتبار أن القضية أكبر وأعمق من حصرها في تلك الدوائر الضيقة، خصوصا إذا اعتبرنا أن الامتحانات من الأسرار العليا للدولة، وهى في الحقيقة من الأسرار العليا للدولة، لذا فإن التساؤل الذي يخرج تلقائيا، منذ متى توضع الأسرار العليا للدولة في أيدى موظفين صغار لا يدركون حجم المسئولية الوطنية، من هذه النقطة. اتجهت الأنظار في أعقاب الفشل الحكومى صوب المؤسسات الأمينة على الوطن ومصالح الشعب، إذن لماذا لا يتم إسناد الأمر للقوات المسلحة والأجهزة الأمنية، أو على الأقل تطبيق القواعد المعمول بها في المؤسسة العسكرية على كل مؤسسات وهيئات الدولة لضمان السرية في الامتحانات؟ وفى النهاية أرى ضرورة التعامل مع القضية بجدية ومسئولية، بدلا من الوقوع في مستنقع الفساد.