أثار القرار الذي أصدره «حزب النهضة» التونسى مؤخرًا في المؤتمر الذي عقده الحزب، والذي حضرته نخب متعددة تمثل الأطياف السياسية المختلفة في تونس، مناقشات واسعة. وذلك أن القرار الذي بدا مفاجئًا سواء لجماعات الإسلام السياسي المختلفة أو للرأى العام- تضمن الفصل الحاسم بين حزب النهضة باعتباره حزبا سياسيا في المقام الأول يعمل في إطار الوطن التونسى وبين الارتباط بفكرة الأممية الإسلامية التي كان الشيخ «حسن البنا» مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في مصر أول من صاغها، باعتبارها الأيديولوجية المعتمدة لجماعات الإسلام السياسي التي استلهمت أفكار الإخوان.
والواقع أن الشيخ «حسن البنا» نجح نجاحًا فائقًا في بناء تنظيم حديدى لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، وهو في الواقع يمثل «دولة موازية» للدولة المصرية. والتنظيم الهرمى المحكم للجماعة في قمته المرشد العام والذي يمثل رئيس الجمهورية في الدولة المدنية، ومكتب الإرشاد وهو بمثابة مجلس الوزراء، ومجلس الشورى الذي يماثل مجلس النواب، ومديرو المكاتب الإدارية التي تضم تحت كل منها شعبا متعددة وهم بمثابة المحافظين، وأخيرًا رؤساء الشعب وهم أشبه بقادة الحكم المحلى. وقد حرص الشيخ «حسن البنا» في وصفه لجماعة الإخوان في عبارة شهيرة على أن يجمع كل المتناقضات في كل واحد.
وقد حرص- تمييزا لجماعة الإخوان عن التنظيمات السياسية للدولة المدنية- على أن يزعم أنه لا يؤمن بالديمقراطية لأنها بدعة غربية، ويركز على الشورى باعتبارها عمود النظام السياسي الإسلامى.
ولذلك لم تحاول جماعة الإخوان المسلمين منذ البداية تشكيل حزب سياسي أو الاشتراك رسميًا في الانتخابات البرلمانية. غير أن جماعة الإخوان المسلمين تطورت أفكارها عن الزمن وقبلت الاشتراك في الانتخابات البرلمانية، والدليل على ذلك أنها نجحت في إيصال أكثر من ٨٠ عضوًا لعضوية مجلس الشعب في عصر «مبارك».
غير أن التطور اللافت للنظر حقا أنه بعد ثورة ٢٥ يناير في مصر قررت جماعة الإخوان تشكيل حزب سياسي باسم «الحرية والعدالة» باعتباره الذراع السياسية للجماعة، وزعمت أن الحزب مستقل تماما في قراراته عن الجماعة.
غير أن الممارسة السياسية الفعلية للجماعة ولحزب «الحرية والعدالة» أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أنه ليست هناك أي فروق تذكر بين الجماعة والحزب. والدليل على ذلك أنه بعد مشهد «تمثيلى» أعلن فيه المرشد العام للجماعة الدكتور «محمد بديع» أنه أحل الدكتور «محمد مرسي» من بيعته حتى يبدو أن رئيس حزب «الحرية والعدالة» بعد ترشحه لرئاسة الجمهورية مستقل تماما عن الجماعة، ثبت أن «محمد مرسي» كان يتلقى التوجيهات والأوامر من مكتب الإرشاد مباشرة، وبالتالى فالتفرقة بين الجماعة والحزب تفرقة وهمية في الحقيقة. ولو عدنا لقرار حزب «النهضة» الأخير وخصوصا تصريحات «الغنوشي» باعتبار حزب النهضة حزبًا سياسيًا وإن كانت مرجعيته إسلامية، وتوقفه عن «الدعوة» التي ستترك –كما قال- لمنظمات المجتمع المدنى، فهذا القرار المراوغ يمثل خديعة كبرى سواء للرأى العام التونسى أو الرأى العام العربى.
لأن معنى ذلك ببساطة أن حزب «النهضة» سيشكل جمعية دينية باعتبارها متخصصة في شئون الدعوة، وكأن هذه الجمعية لن تكون لها روابط وثيقة بالحزب نفسه!، والواقع أن معنى ذلك عمليا أن هذه الجمعية الدينية هي التي ستحشد الأنصار لحزب النهضة في كل انتخابات قادمة وهى التي ستعمق صلة الحزب– وإن كان بصورة غير مباشرة- بالجماهير التونسية.
ولكن السؤال الذي لم يطرحه أحد سواء في تونس أو في مصر هو: ماذا تعنى الدعوة؟ وهل هي الدعوة للإسلام في مجتمعات غالبيتها مسلمون؟ أم هي الدعوة لأيديولوجية سياسية حتى ولو كانت مضمرة لتأييد الحزب السياسي؟.
وفى تقديرنا أنه سواء في تونس أو في مصر لا ينبغى السماح بتكون جمعيات دينية تفتح فروعا لها في الأحياء والمدن، لأن هذه الجمعيات ستكون هي منبع الفكر المتطرف الذي سيقود عاجلا أو آجلا إلى الإرهاب، وخصوصا من خلال غسل مخ الشباب الذين لا يستطيعون بسهولة التمييز بين الأفكار المعتدلة والأفكار المتطرفة. وحتى نزيد الأمر إيضاحا نقول إن جمعية مثل «الجمعية الشرعية» في مصر يمكن السماح بها لأنها بحسب تقاليدها لا تشكل دولة موازية بمعنى أنها لا تؤسس جمعيات فرعية في كل حى من أحياء المدن ولا في كل قرية من القرى. أما جماعة الإخوان المسلمين- أو حزب «النهضة»- فهى بحسب التعريف لا تؤمن سوى بالتمثيل الجغرافى واسع المدى بحيث تتنشر في كل مكان.
ومن هنا يمكن القول إن التفرقة المزعومة بين الدعوى والسياسي تفرقة وهمية ولا أساس لها، وإنما هي حيلة بارعة -وإن كانت ساذجة- لبقاء الحال على ما هو عليه مع تغيير سطحى في المسميات، بمعنى الزعم أن الدعوة ستتخصص فيها منظمات المجتمع المدنى، والسياسة سيتفرغ لها الحزب!.
ولعل هذا التفكير التآمرى هو الذي يكمن وراء بعض المبادرات التي يطلقها بعض قيادات الإخوان المسلمين الهاربة إلى تركيا. وقد نسبت تصريحات للدكتور «جمال حشمت» القيادى الإخوانى يدعو فيها لعودة حزب «الحرية والعدالة» وليس عودة الجماعة مرة أخرى، وكأن هناك فروقا حاسمة بين الجماعة والحزب!. ومن هنا يمكن القول إن القرارات الأخيرة لحزب «النهضة» محاولة يائسة للهروب من مأزق السقوط التاريخى لتيار الإسلام السياسي، الذي دشنته جماعة الإخوان في مصر بعد فشلها السياسي وانقلاب الشعب عليها لتحرير الهوية الوطنية من أوهام الأممية الإسلامية المزعومة!.