قرأت وسمعت قصة صناعة أغنية «صورة» للمبدع الراحل كمال الطويل مئات المرات.. وكنت فى كل مرة أتوقف -وأنا رجل ناصرى الهوى- أمام «سر عبدالناصر» الذى أرغم رجلا بقامة كمال الطويل على أن «يبدع».. وأسأل نفسى مئات المرات.. وكيف يتم الإبداع «جبرا»؟.. إزاى عم كمال يقدر يعمل جملة زى «واللى هيهرب من الميدان عمره ما هيبان فى الصورة»!! كيف راودته فكرة استخدام الكورال بهذا الشكل.. فيما هو مرغم؟!
القصة باختصار أن عمنا كمال الطويل -لمن لا يعرف قطعا- كان قد قرر السفر للخارج وعدم تلحين الأغنية المعتادة فى احتفالات «ثورة يوليو»، وهو فى المطار فوجئ أنه «ممنوع من السفر»، فعاد ليسأل عبدالحليم حافظ ومن بعده شعراوى جمعة.. ليصل الأمر فى النهاية أنه لن يغادر.. وأنه سيلحن بالأمر؟! أن يحدث ذلك من رجال عبدالناصر أمر وارد.. لكن أن «يبدع» الطويل بهذا الشكل فهذا هو الغريب.
ليس هذا وحده ما شغلنى لسنوات.. لكننى أيضا وكلما رأيت عمنا سيد حجاب كنت أسأله كيف استطعت أن تغنى لنظام عبدالناصر بعد أن سجنك؟.. وكيف استطاع الأبنودى ومجدى نجيب وفؤاد حداد أن يفعلوا نفس الأمر؟! وكانت الإجابة الدائمة من عمنا سيد حجاب تشبه فى معناها مقولة «أنه زعل المحبين».. لدرجة أنه حينما أذاع الراديو خبر وفاة عبدالناصر وهو بالخارج لم يصدق.. وحينما تأكد من الخبر لم يردد سوى أن الرجل تركهم فى موعد غير مناسب!
أعرف أن بعضكم يسأل.. إيه اللى فكرك بالحكايات دى؟! أقولها بصراحة.. إن التفسير الذى أورده الرئيس فى حواره مع الزميل أسامة كمال لتعليقه السابق بخصوص أغنية «قلنا هنبنى وادى احنا بنينا السد العالى».. وما فهمته -وقد يكون فهمى قاصرا- أن ثمة رسالة يريد الرئيس توصيلها للمبدعين فى مصر.. مؤداها أنهم لا يمارسون دورهم كصناع أمل.. ليس مجرد رغبة فى أن يكتب هؤلاء بالأمر المباشر لمشروع بعينه مثلما حدث فى توشكى القديمة.. أو فى «مترو الأنفاق» كما فعل شعبان عبدالرحيم فى زمن مبارك.. لكنه وإذا ما ربطنا هذا المعنى الوارد فى الحوار الأخير مع تعبير سابق عن أن عبدالناصر كان محظوظا بإعلامه.. ربما نفهم الأمر على علاته.. وبشكل صحيح.
وربما كنت ألمحت منذ أسبوعين فى نفس هذه المساحة إلى الجسر المقطوع بين «النظام» والناس.. وأن ذلك الجسر بالأساس عماده رجال الثقافة -المبدعين تحديدا- لأنه لا يمكن أن يقوم بلد بدون «إبداع».. ليس لمجرد التهليل والتطبيل.. فدور الإبداع سابق.. ومساير.. وتال لأى عمل على الأرض.. الإبداع حلم.. وبدون وجود الحلم لا يقوم أى مشروع.. سيظل مجرد مشروع -خراسانات ومبانى- لن يتحول إلى رمز أو قيمة.. انظر إلى حكاية برج الجزيرة مثلا.. وهل هو مجرد مبنى شاهق أم أنه رمز لما هو أكبر؟.. ثم إن الفن «رسول» يسبق دور الخارجية ويدعمها.. وهذا ما نسميه -القوة الناعمة- الأهم.. حتى لا أطيل.. إننا جميعا ندرك الآن أن ثمة «عطلا» فى ماكينة الإبداع فى هذا البلد.. وأن الحرب التى تخوضها البلاد فى مواجهة الإرهاب أو فى التنمية لا بد وأن تشترك فيها «كتائب النمنم» (نسبة إلى وزير الثقافة) ليس جبرا على طريقة رجال عبدالناصر، وليس بالدعوة إلى مؤتمرات فاشلة للقصة والمسرح.. وفى مجال الأغنية بالذات، ولأنها الأسرع.. فهى كما «رجل الاستطلاع».. تتعامل مع مشاعر الناس بشكل أكثر نفاذا -ولكن ليس على طريقة ألحان الأخ عمرو مصطفى- ضررها أكثر من نفعها.
الأمر -إذا نظرنا إلى تجربة نظام عبدالناصر- يحتاج إلى مراجعة ما فعله د.ثروت عكاشة.. وسعد الدين وهبة.. ومسرح التليفزيون.. ومؤسسة السينما.. مش مجرد شوية ناس يلموا فرقة ويعملوا غنوة.
هى صناعة كاملة يا سادتنا.. وأصبحت صناعة جاذبة لدخل قومى لا يتخيله أحد.. وحسب زميلنا الموسيقار الشاب محمد رحيم فإن حجم الأموال التى سرقت من حق الأداء العلنى للمبدعين المصريين يصل إلى ٨٠ مليار يورو.. وقد يظن البعض أن الرقم مبالغ فيه.. لكنها الحقيقة التى لا نعرفها!!
هذه الصناعة هى الأرض التى يقوم عليها بناء صناعة الأمل.. «مش مجرد أغانى»!!