بطولات الجيش المصري ممتدة امتداد التاريخ، موثقة على جدران المعابد والبرديات، ومدونة في المخطوطات التاريخية، ويشهد لها العالم أجمع قبل المصريين أنفسهم، وهذه البطولات المجيدة، في تاريخ مصر القديم وتاريخها الحديث، دفعت نابليون الثالث ملك فرنسا عام 1863م ليرجو سعيد باشا والي مصر في ذلك الحين أن يمده بألاي من الجنود المصريين والسودانيين، في حربه على المكسيك، فقبل سعيد باشا رجاء نابليون غير أنه لم يرسل له سوى أورطة مؤلفة من 453 جنديًا بين ضباط وصف ضباط وعسكر لمعاونته في حربه على المكسيك.
عندما شرع الأمير عمر طوسون في توثيق بطولة الأورطة المصرية في المكسيك من خلال كتابه "بطولة الأورطة السودانية المصرية في حرب المكسيك"، والصادر حديثًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة الجيش المصري، بدأ بالأسباب التي دفعت إلى هذه الحرب، والتي تجلّت في إساءة حكومة المكسيك لمعاملة كثير من رعايا فرنسا وإنجلترا وإسبانيا، ونهبت أموالهم كسبب ظاهر للحرب، ويكمل طوسون أن الغرض من هذه الحرب والذي كان يسره نابليون الثالث في قرارة نفسه ويرمي إليه هو تأسيس حكومة ملكية كاثوليكية في المكسيك؛ ليضمن بذلك وجود التوازن في هذه البلاد من نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية؛ لذا عقدت الحكومات الثلاث النية على استخدام القوة المسلحة للحصول على مطالب رعاياها ووجهت كل منها حملة إلى المكسيك سنة 1861م، ولكن الخلاف احتدم بين هذه الدول فسحبت إنجلترا وإسبانيا جنودهما من المكسيك في أبريل 1862م، وقامت فرنسا وحدها بأعباء هذه الحرب، إلا أن مناخ المكسيك الحار وطبيعة أراضيها الجبلية الذي تنتشر فيه الحمى الصفراء والدسنتاريا فتكت بالجنود الأوروبيون على عكس ذوي البشرة السمراء الذين تميزوا بحصانة طبيعية ضد هذين المرضين، وكان هذا السبب هو العامل الأساسي الذي دفع نابليون الثالث ليرجو سعيد باشا والي مصر ليمده بألاي من الجنود السودانيين والمصريين.
تكونت الأورطة السودانية المصرية من أربعة بلوكات وهي من ألاي المشاة التاسع عشر، وقد اشتركت في حرب المكسيك من عام 1963 إلى عام 1867م، ففي 8 يناير 1863م أقلعت النقْالة الفرنسية لاسين "La Seine" بهذه الأورطة من الإسكندرية مارة بطولون حتى وصلت بها إلى "فيرا كروز" وهي أكبر ميناء في المكسيك في 23 فبراير بعد رحلة استغرقت 47 يومًا، وقد مات منها أثناء السفر سبعة جنود، وكانت بقيادة البكباشي جبرة الله محمد أفندي ووكيله اليوزباشي محمد الماس أفندي، وجاء في التقارير الفرنسية عنها أنها كانت ذات ملابس حسنة وسلاح جيد وهيئة أنيقة واستعداد عسكري يثير إعجاب كل من يراها، إلا أن سلاحهم كان يختلف عن السلاح الفرنسي من حيث استخدام الذخيرة، فوزعت عليهم القيادة الفرنسية أسلحة فرنسية، وأودعت أسلحتهم في المخازن ثم إعادتها إليهم عند رجوعهم إلى مصر.
تميز جنود الأورطة السودانية المصرية بشجاعتهم البالغة وبراعتهم في الرماية، ولذلك أعتمدت عليهم القيادة الفرنسية في العمل بالمواقع التي كانت الجنود الفرنسية لا تستطيع المقام فيها، فصدوا غارات غارات العصابات التي كانت تجوس خلال هذه الديار وتشن الغارات على قوافل المؤن والذخيرة وعلى المخافر التي بها قليل من الحرس، وقبل مباشرة هذه الأورطة العمل في 11 مارس 1863م أصدر الجنرال الفرنسي قائد الجملة على المكسيك قرارًا بتكميل ما ينقص الأورطة من الضباط وترقية بعض أفرادها ليسدوا هذا النقص وأرسلت هذه الترقيات إلى مصر لتعرض على الخديو إسماعيل لاقرارها، وعرضت الترقيات على الخديو وأقرها وأعادها الديوان الخديوي إلى نظارة الجهادية المصرية بتاريخ 8 أكتوبر 1864 للعلم واتخاذ إجراءات الترقية، وبعد اتخاذ إجراءات ترقيتهم، ومخاطبة نظارة الجهادية للديوان الخديوي رد الديوان الخديوي للمرة الثانية على خطاب نظارة الجهادية "علم من إفادة ديوان الجهادية الوارد بتاريخ 10 أكتوبر 1864 م نمرة 20 أن عرائض الترقية الخاصة بالصاغقول أغاسي واليوزباشي والثمانية الملازمين السابق ترقيتهم ليحلوا محل الناقصين من ضباط العساكر السودانية المرسلة في العهد الأول إلى مكسيكا عرضت على الحضرة الخديوية ووافقت عليها وقد أرسلت إلى مكسيكا وهذا للعلم".
ما كادت الأورطة تستقر ببلاد المكسيك حتى صدرت الأوامر لها وللكتائب الأجنبية وفرق المتطوعين من المكسيكيين الفرنسيين بتطهير الأراضي الحارة من زمر اللصوص الذين كانوا يعيثون فيها فسادًا، وفي الوقت الذي حوصرت فيه مدينة بوبيلا "puebla" وهي المدينة الثانية في الأهمية من مدن المكسيك في 23 فبراير 1863 إلى 17 مايو 1863م واستسلمت حاميتها المؤلفة من 26 جنرالاً و900 ضابط و12 ألف جندي، كان من اللازم الاحتفاظ بالمواصلات التي كان المكسيكيون يحاولون دومًا قطعها بين الساحل وهذه المدينة، وكانت الأورطة السودانية المصرية من أهم قوات صيانة المواصلات في الأراضي الحارة حتى قال القائد العام في فيراكروز عن جنودها أن ليس لديه إلا ما يبديه بشأنهم إلا الإطراء والثناء من كل الوجوه، ثم استخدم قسم من من الذين وقعوا في الأسر من بوبيلا في أشغال السكة الحديد وكان كثيرًا ما يزعجهم المكسيكيون فدعت الحالة إلى تكليف بلوك ونصف بلوك من الأورطة لحراستهم والدفع عنهم، فقاموا بذلك خير قيام وتقدمت الأعمال تقدمًا سريعًا.
في مايو 1863م فجعت الأوطة المصرية بوفاة قائدها البكباشي جبرة الله محمد أفندي على إثر إصابته بالحمى الصفراء فخلفه القائد الثاني لها الصاغ محمد الماس أفندي بعد أن منح رتبة البكباشي، وجاء تأبين السلطة الفرنسية له أنه كان على جانب كبير من دماثة الأخلاق والتحلي بصفات عسكرية نادرة، وأنه كان محترمًا من الجميع لسلوكه الحسن وقيامه بواجباته على الوجه الأكمل وتقديره ما على عاتقه من المسئوليات. وفي 21 يونيو 1863 أقيم في فيراكروز قداس حضره القائد العام ومثلت فيه جميع السلطات العسكرية والمدنية فعهد إلى الأورطة السودانية المصرية القيام بمهام التشريفات، وبعد انتهاء الاحتفال استعرضت في أكبر ميادين المدينة، وتقديرًا لما قاموا به من بطولات كافأ القائد العام المارشال فوريه "Forey" الأورطة، وأمر في 28 سبتمبر 1863م أن تؤلف منهم كتيبة الجنود الذين يسمون "برنجي نفر" فألفت منهم هذه الكتيبة وبلغ عددها ربع عدد الأورطة، وأمر بمنح كل فرد من أفرادها 65 سنتيمًا يوميًا، "2.5 جنيه تقريبًا" وأن يُميزوا بشارات صفراء توضع على أذرعتهم، فترك هذا الأمر أثرًا عظيمًا في نفوسم وفي نفوس ضباطهم ودل على عظيم عناية القيادة الفرنسية بهم وتقديرها لجدارتهم واستحقاقهم، كما امتدح قائد فيراكروز بسالة جنود الأورطة في التقرير الذي أرسله إلى القائد العام بشأن معركة عسكرية وقعت في 2 أكتوبر 1863 قائلًا: "لقد كلل هذا القتال رءوس السودانيين المصريين الذين قاموا بأعبائه بأسمى أكاليل الفخر فانهم لم يبالوا بالنار المنصبة عليهم من الأعداء وردوهم وهم يزيدون في العدد عليهم تسع مرات على أعقابهم مدحورين"، وقد بلغ عدد الوقائع التي خاضت الأورطة غمارها في المكسيك إلى ثمانية عام 1863، وفي 22 أبريل 1864 كتب قائد فيراكروز إلى القائد العام يقول: "لقد سلك السودانيون المصريون مسلكًا برهن على بطولتهم فقاتلوا عددًا يربو على عددهم أضعافًا مضاعفة ولبثوا محتفظين بما بلغوا من قبل من الدرجة السامية من الشجاعة"، وهذه البسالة والصمود لجنود الأورطة دفع القائد العام لأن يكتب في تقريره إلى وزارة الحربية الفرنسية في 12 يوليو 1864 عقب قتال دارت رحاه في تلك الفترة مشيدًا ببأسهم ومواجهتهم قائلًا: "إن هؤلاء السودانيين المصريين الذين لا تسمح نفوسهم أن يبقى الأسير حيًا قد أسرفوا في القتل وأنى لم أر في حياتي مطلقًا قتالًا نشب بين سكون عميق وفي حماسة تضارع حماستهم فقد كانت أعينهم وحدها هي التي تتكلم وكانت جرأتهم تذهل العقول وتحير الألباب حتى كأنهم ما كانوا جنودًا بل أسود"، وخص المارشال، اليوزباشي حسين أحمد، والملازم فرج الزيني، والجاويشية حديد فرحات ومرجان الدناصوري والأنباشي الحاج عبدالله حسين باشا والجندي سودان كباشي، لما قدموا من بسالة وثبات في المعارك التي خاضوها يفوق كل التوقعات، وقرر المارشال منح الأنباشي عبدالله حسين باشا وسامًا عسكريًا لبسالته التي أبداها في الواقعة التي حدثت يوم 12 يوليو 1864 والجرح العميق الذي أصيب به وعدد القتلى الذين أجهز عليهم، ولطعنه بحربة "سنكة" بندقيته جنديًا مكسيكيًا فلما نشبت به رفعه بها وذراعيه غير مثنية، وكان عدد الأعداء في هذه المعركة ستة أمثال جنود الأورطة.
كتب قومندان الأورطة محمد الماس أفندي عام 1864 إلى الخديو إسماعيل تقريرًا بالمعارك التي خاضت غمارها، فلما علم الخديو ما أحرزته من المجد العسكري وما امتازت به من الشجاعة والإقدام أعلن رضاه التام أرسل بكتاب إليهم في 24 أكتوبر 1864 يقول به "إلى محمد الماس أفندي وكيل الأورطة السودانية المصرية بالمكسيك، عرضت على مسامعنا عريضتكم المحتوية على الأخبار التي حصلت منكم ومن ضباط الأورطة من الثبات والإقدام في الحرب أمام من قابلكم، وما أبديتموه من الشجاعة والمهارة، وما توجه به الالتفات إليكم من الدولة الفرنسية، ولقد ارتحنا غاية الارتياح لما ظهر منكم، حيث حافظتم على الشرف الذي حصلتم عليه من الحكومة المصرية واستوجبتم أنتم ومن معكم من الضباط جميل الثناء والحمد على ما بدا منكم، وقد صدرت أوامرنا على عرائض الضباط الذين ترقوا بدلا من الناقصين وها هي مرسلة إليكم لتسلموا كل عريضة إلى صاحبها مع تبليغهم جميعًا شكرنا لحسن صدقهم".
وقعت في أيام 21 إلى 24 يناير 1865م ثلاث معاك عظيمة اشتركت فيها الأورطة السودانية المصرية ببسالتها المعتادة، قال عنها القائد العام للقوات الفرنسية في تقريره لقيادة الجيش الفرنسي: "من الصعب العثور على كلام يمكن التعبير به عن بأس هذه الأورطة البارعة وبسالتها وصبرها على الحرمان واحتمال المشاق وحميتها في إطلاق النيران وجلدها في المشي، فلقد قام كل جندي من جنودها في هذه الوقائع الثلاث بواجبه خير قيام، وكل جندي من جنود الأورطة يستحق المدح والثناء، في 27 فبراير 1865 رأى الخديو إسماعيل أن يرسل أورطة أخرى إلى المكسيك لتحل محل الأورطة الأولى فأرسل إلى جعفر باشا حكمدار السودان العام لتجهيز أورطة من ألف جندي من خيرة الجنود المشهود لهم بالكفاءة وحُسن المظهر والبسالة في ميادين القتال لإرسالها إلى المكسيك. وفي 2 مارس 1865م درات رحى معركة طاحنة قتل في معمعتها الماجور مارشال قائد الفرقة الفرنسية، وفي هذه الواقعة أنعم على الأنباشي مرجان مطر والعساكر رمضان كوكو وعلي إدريس وأنجلو سودان وكوكو سودان بأوسمة عسكرية ونوه بأسمائهم، كما أنعم الخديو إسماعيل باشا بالوسام المجيدي من الدرجة الرابعة على الماجور مارشال مكافأة له على عنايته بشئون الأورطة قبل أن يعلم بوفاته.
في بداية عام 1866 لم تكن الأورطة السودانية المصرية الجديدة قد سافرت إلى المكسيك لمجاوزة مدة تجهيزها الحد المألوف، كما أن الحرب في المكسيك أوشكت أن تضع أوزارها وأن الأورطة التي بها قد دنا رجوعها إلى الوطن، وفي ليلة 25 يوليو 1866 هاجمت فرقة مؤلفة من 200 مكسيكي نقطة يحتلها 26 جنديًا من جنود الأورطة السودانية المصرية ورغم أن الهجوم عليهم كان فجأة مع قلة عددهم فقد استمرت رحى الحرب الدائرة إلى الخامسة صباحًا ثم انسحب العدو تاركًا خمسة من القتلى وعددًا كبيرًا من الجرحى، وقال عنهم القومندان في المكسيك: "لقد استحقت الفرقة السودانية المصرية جزيل المدح والثناء لسلوكها العجيب، وقد نال اثنان من جنودها وسام الحرب وهما بخيت إبراهيم الشربيني، وبخيت بركة، وتم تسليمهم الأوسمة في 15 أغسطس 1866 في الاحتفال بعيد ميلاد الإمبراطور نابليون الثالث، ثم حدثت بعد ذلك عدة وقائع بلغ بها عدد المعارك التي اشتبكت فيها الأورطة إحدى عشرة معركة في سنة 1866، وتقرر في العام 1866 جلاء الجيوش الفرنسية التي في المكسيك فأخذت تنسحب من 13 يناير سنة 1867 وتم جلاؤها في 12 مارس من نفس العام.
شاركت الأورطة السودانية المصرية في 48 واقعة حربية خلال الفترة التي قضتها في المكسيك من 23 فبراير 1863م غلى 12 مارس 1867م أي أربع سنوات وسبعة عشر يومًا، وفازت على أعدائها في جميع المعارك مع أنها كانت دائمًا أقل منهم عددًا، وعندما بدأت الأورطة بالرحيل أبحرت من فيراكروز في 12 مارس 1867م ووصلت إلى "سانزير" ثم إلى باريس في أوراخر شهر أبريل، وكانت مدة إقامتها في باريس تحت قيادة المارشال قائد الحرس الإمبراطوري فقدمها بنفسه إلى الإمبراطور نابليون الثالث، وكان معه شاهين باشا ناظر الجهادية المصرية، وزين الإمبراطور صدور عدد كبير من ضباطها وجنودها وسام " لا كروا دي لاليجيون دونور" أو وسام الحرب، وهنأ الإمبراطور قائد الأورطة البكباشي ألماس أفندي بمقدرة عساكره وأهليتهم ووزع على المصابين الكثير من المكافآت، أما البكباشي ألماس أفندي الذي كان حائزًا لرتبة "شفالييه دي لا ليجيون دونور" منذ 20 أبريل 1867م فقد مُنح وسام "لا كروا دوفسييه" وهو من أرفع الأوسمة العسكرية الفرنسية، ثم غادرت الأورطة فرنسا ووصلت إلى الديار المصرية وعددها 313 بعد أن كانت 453، حيث خسرت 140 نفسًا، وفي 28 مايو 1867م استعرض الخديو إسماعيل الأورطة في فناء قصر رأس التين بالإسكندرية وفي مساء هذا اليوم أقام لها لطيف باشا ناظر البحرية حفلة حافلة رأسها شريف باشا جمعت ضباط الأورطة والضباط الفرنسيين المقيمن بالإسكندرية والمارين بها، وحضرها قنصل فرنسا العام وموضفو القنصلية وقائد الأسطول الفنرسي وكثير من عظام الصباط المصريين، وكانت قاعة الاحتفال مزينة بالإعلام الفرنسية والمصرية، وفي اليوم التالي أرسل الخديو إسماعيل إلى ناظر الجهادية الترقيات إلى ضباط وضباط الصف بالأورطة السودانية المصرية، نظير الخدم الجليلة القيمة التي قاموا بأعبائها في المكسيك والتي ترفع مجد مصر وشرف جيشها العظيم.