إنه العار يكللنا جميعا، إن لم نتخذ، دولة ومواطنين، قرارات مهمة تعيد لدولة القانون هيبتها، وللأخلاق العامة والشهامة والرجولة رونقها، من جديد.
إذ كيف يسمح نفر من أهل مصر المحروسة بأن يقوم نفر منهم بتعرية سيدة مُسِنَّة من ملابسها والسير بها فى طرقات القرية لا لذنب ارتكبته سوى سريان شائعة تفيد بارتكاب ابنها فعلًا مشينًا مع جارته المسلمة، فعلاً طالما تكرر فى محافظات ومدن عديدة فى مصرنا المحروسة، وتخلفت عنه مشكلات كبرى، مأساة تتكرر كل فترة من الزمن فى غيبة من تدخل حاسم لدولة القانون، لقد آن الأوان أن نفتح هذا الجرح، الذى تحول بفعل الزمن والتكرار إلى مأساة حقيقية، على آخره وأن نصفي ما به من سموم حتى ننجو بوطننا مما يحاك له.
لقد بدأت تلك المأساة - من وجهة نظرى مع بداية حكم الرئيس الراحل أنور السادات، الذى استهله بالتصالح الشهير مع جماعة الإخوان المسلمين، والقطيعة الكبرى مع رجال ورموز الحقبة الناصرية، كانت حادثة كنيسة الخانكة بداية تحويل ملف الأقباط، برمته إلى جهاز مباحث أمن الدولة، فبعد تشكيل لجنة تقصى الحقائق برئاسة جمال العطيفي، وبعد أن وضعت اللجنة تقريرًا أشارت فيه لأسباب الاضطراب فى العلاقات بين المسلمين والمسيحيين، ووضعت برنامجًا ناجعًا لعلاج تلك المشكلات - التى ما زالت بالمناسبة قائمة إلى يومنا هذا - وبعد أن أثنى مجلس الشعب على ذلك التقرير.. تم إيداعه أدراج المجلس، وتم تسليم الملف برمته لأمن الدولة.
جاءت أحداث الزاوية الحمراء كأول نموذج لتعامل جهاز مباحث أمن الدولة مع ذلك الملف، الذى عرف بملف الفتنة الطائفية، فقد وقف الرئيس السادات يشرح ما كتبه له إبانها وزير داخليته النبوى إسماعيل، طبقًا لتقارير الجهاز آنذاك، مشددًا على أن المسألة لا تعدو مشاجرة بين أسرة مسلمة وأسرة مسيحية حول قطرات من الماء العفن سقطت من شرفة إحداهن على غسيل الأخرى، كان الأمر بالطبع أبعد من هذا بكثير، والمفارقة فى هذه الرؤية أن أحداث الزاوية الحمراء كانت بروفة نهائية لاستعراض القوة قامت به جماعات العنف الدينى فى مصر قبيل اغتيال السادات نفسه، والمفارقة الأكبر أن يروى هذه القصة الرئيس نفسه.
لم يختلف الأمر كثيرًا فى تسعينيات القرن الماضى عندما ارتفعت موجة العنف لتطال الجميع واتخذت الجماعة الإسلامية المصرية المسلحة، الأقباطَ رهينة لإجبار النظام على الرضوخ لطلباتها، وبعيدًا عن الاضطهاد الذى رأيناه بأم أعيننا للأقباط فى حقبتى الثمانينيات والتسعينيات فى المنيا وأسيوط وسوهاج وقنا، والذى وصل إلى حد تطبيق الحدود عليهم فى مساجد الجماعة الإسلامية بصعيد مصر، على مرأى ومسمع من أجهزة الأمن، فقد بلغت الاعتداءات ضد الأقباط ذروتها فى تلك المرحلة، التى شهدت مقتل أكثر من مائة قبطى فى حوادث متفرقة، وظل الأمن كعادته يصف تلك الحوادث المنظمة بأنها حوادث فردية يقوم بها بعض الموتورين غير صحيحى العقيدة، واكتفى النظام بحفلات التقبيل بين الشيوخ والقساوسة عقب كل حادثة، خاصة عندما تكون عنيفة.
"دير المحرق" و"دميانة" و"عزبة الأقباط" و"عزبة داود" و"التمساحية"، كل هذه الأسماء السابق الإشارة إليها قرى وأديرة شهدت مذابح بشعة ضد الأقباط بين عامى ١٩٩٤ و١٩٩٧ راح ضحيتها العشرات، وظلت الدولة تتعامل مع المسألة بنفس الأسلوب، لا طائفية فى الأحداث، أحداث فردية، لا متهمين يقدمون إلى المحاكم ولا أحكام، كانت مأساة حقيقية، أن تضيع هيبة القانون، فى بلد يباهى الأمم بحضارته التى تعود إلى سبعة آلاف عام، بلد يسمح ببناء الخمارات وكازينوهات القمار، وملاهى الرقص والعربدة لتجار الفشة والكرشة، ويفكر ألف مرة قبل الإقدام على منح قرار ببناء دار عبادة للإخوة المسيحيين!.
لقد تكشف لي، يا سيادة الرئيس، أثناء سنوات متابعتى لهذا الملف، والتى وصلت إلى ما يقرب من ربع قرن، أن معظم أسباب الفتنة يأتى من عدم السماح ببناء الكنائس، والبعض الآخر من التراخى فى تطبيق القانون على الجميع واحترام هيبة الدولة، إذ كيف يفهم أن يسمح لقاصر أن تتزوج لمجرد أنها مسيحية أحبت شابًا مسلمًا وتريد الارتباط به، وكيف يسمح لقانون فى مصر، بتعيين وصى على تلك القاصر بخلاف أهلها للسماح لها بتغيير الديانة، وماذا لو تم هذا مع فتاة مسلمة؟!، إنها مشكلة تطبيق قانون وإعماله على رقاب الجميع دون اعتبارات سياسية أو دينية.
فى العديسات بالأقصر، والعياط بالجيزة، ومنقطين بسمالوط، ومدن أخرى عديدة فى ربوع مصر المحروسة راح مسلمون عاديون يحرقون كنائس يتعبد فيها الأقباط لسنوات، لا لشيء إلا لورود شائعة بأن الأقباط فى طريقهم إلى ترميمها أو بناء جدرانها التى تهدمت دون إذن أو تصريح من الدولة، والسؤال هنا كيف تحول هؤلاء البسطاء من المسلمين إلى متطرفين؟! إن هذه الأفعال كانت، ولحقب عديدة، مقصورة على فئة من الإرهابيين لهم مطالب سياسية معينة.. فماذا حدث؟ الغريب أنه لا يوجد أحد يطرح هذا السؤال ولا يوجد من يسعى بجدية للإجابة عنه، وبعيدًا عن السؤال الذى طرحناه فإننا نرى الحل أبسط من أن يظل دهرًا كاملًا حتى يتم تطبيقه واللجوء إليه، وهو ليس بسيطًا وفقط وإنما أيضا، فى متناول سلطات الدولة التى تملك الحق وحدها فى السماح ببناء وترميم الكنائس وحماية المتعبدين بها، ولكن يبدو لى أن البعض كان يريد وضع هذا الملف - دائما - على سطح صفيح ساخن للمناورة به حينا وللضغط به حينا آخر وللتلويح به فى أحايين كثيرة، ولكن ما لم يكن يدركه هؤلاء أو ربما أدركوه وفعلوا ما فعلوا عن عمد، أن هذا الملف لا يجب أن يدخل حلبة الاحتراب السياسى مهما كانت الأسباب والدوافع، وإنما يجب وضعه فى قلب اهتمامات الدولة بشكل عام، ورئيسها بشكل خاص باعتباره أخطر وأهم ملف فى مصر.
الأقباط مطالبهم محددة وواضحة يا سيادة الرئيس، وقد كشفت عنها جميع الأحداث والمشكلات التى مرت بالبلاد طوال العقود الخمسة الماضية: وضع قانون موحد لبناء دور العبادة، مسلمة كانت أم مسيحية، إيجاد حلول عملية لمشكلة تمثيلهم السياسي، إزالة الاحتقان الطائفى بإيجاد قانون ينص على احترام المعتقدات، وتحريم إثارة الفتنة والتحريض عليها، إنشاء مجلس أعلى للوحدة الوطنية، يضم حكماء من المجتمع المدنى من الجانبين، يكون له حق التدخل السريع واقتراح إجراءات محددة لعلاج الظواهر المسببة للاحتقان الطائفي، وهو ما نأمل فى تحقيقه، على يدي الرئيس عبدالفتاح السيسي.