حاولنا فى مقال سابق إلقاء بعض الضوء على كتاب بالغ الأهمية عن تاريخ علم النفس الحديث يوشك على الصدور ضمن مطبوعات المركز القومى للترجمة، أشرنا فيه إلى التقاط علماء العصر ومنهم علماء النفس فكرة ميكانيكية السلوك الإنسانى. لقد مهدت الساعات والآلات ذاتية الحركة الطريق أمام فكرة أن أداء البشر وسلوكهم يخضع لقوانين الميكانيكا، وأن المناهج الكمية والتجريبية التى أحرزت نجاحا كبيرا فى الكشف عن أسرار الكون الفيزيقي، يمكن تطبيقها على الطبيعة البشرية.
لقد أصبحت تلك الفكرة بمثابة القوة المحركة لروح العصر فى العلم والفلسفة، كما أنها غيرت ولحقبة طويلة الصورة السائدة عن الطبيعة البشرية حتى لدى جمهور العامة. وعلى سبيل المثال فقد كتب واحد من القادة العسكريين الجنوبيين معلقا على وفاة صديق له خلال الحرب الأهلية الأمريكية (١٨٦١-١٨٦٥) أنه لم يبق منه «سوى تلك الماكينة المحطمة التى كانت الروح تحركها ذات يوم». لقد تغلغل التصور الميكانيكى للكائنات البشرية فى أدب القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين فى القصص وحكايات الأطفال. كان الناس ينبهرون بفكرة أن الماكينات يمكن أن تعيد إنتاج أشكال تشبه الكائنات الحية. لقد كتب كاتب القصة الدنماركى هانز كريستيان أندرسون قصة العندليب المغرد عن طائر ميكانيكى. وكتبت الروائية الإنجليزية مارى وولستونكرافت شيللى كتابها ذائع الصيت فرانكشتاين، صورت فيه وحشا ميكانيكيا يدمر صانعه. وتفيض روايات سلسلة كتب أوز للأطفال التى أصدرها الكاتب الأمريكى فرانك بوم، والتى كانت أساس الفيلم الكلاسيكى ساحر أوز بالرجال الميكانيكيين.
وبذلك فقد كان تراث القرون من السابع عشر إلى التاسع عشر تسوده فكرة أن البشر يعملون كما تعمل الماكينات، ومن ثم فإنه تمكن دراسة ذلك باستخدام نفس المنهج العلمى. فالأجسام تشبه الماكينات، وكانت النظرة العلمية هى السائدة، ومن ثم تم إخضاع دراسة الحياة لقوانين الميكانيكا. ولقد تم كذلك وبشكل أولى تطبيق النظرية الميكانيكية على عمل الوظائف العقلية لدى البشر. وكانت النتيجة تصور التوصل إلى ماكينة تستطيع التفكير. تمكن تشارلز باباج من تصميم دمية طفل تتحرك مركبة من ساعات وآلات ذاتية الحركة. لقد كان مأخوذا على الخصوص فى طفولته بدمية ميكانيكية لسيدة ترقص، وخطط لشرائها فيما بعد. كان باباج خارق الذكاء وموهوبا فى الرياضيات التى أقبل على دراستها خلال مراهقته، وحين التحق بجامعة كامبريدج، أحبطه اكتشاف أن معلوماته الرياضية تفوق تلك التى تقدمها الجامعة. وقد أصبح فيما بعد أستاذا للرياضيات فى كامبريدج، وزميلا فى الجمعية الملكية، وواحدا من أشهر المثقفين فى عصره. كان حلم حياته أن يتوصل إلى آلة حاسبة تستطيع إجراء العمليات الحسابية بأسرع مما يستطيعه البشر، وأن تقوم بعد ذلك بطباعة النتائج. وبعد سعيه لتحقيق هذا الهدف، تمكن من صياغة المبادئ الأساسية التى قامت عليها أجهزة الكمبيوتر فيما بعد.
بينما الآلات الذكية التى ناقشناها فيما سبق كانت تحاكى أفعال البشر الفيزيقية، فإن آلة باباج الحاسبة تحاكى الأفعال العقلية للبشر. بالإضافة إلى جدولة القيم الرياضية، فإن الآلة تستطيع لعب الشطرنج والدومينو وغيرهما من الألعاب. وبالإضافة إلى ذلك تستطيع الآلة تخزين نتائج العمليات الحسابية لاستخدامها فى عمليات حسابية جديدة. وقد أطلق باباج على آلته الحاسبة آلة الفروقات، وأطلق على نفسه «المبرمج»، وتعتبر هذه الآلة التى ما زالت صالحة للعمل بمثابة علامة البداية لما نشهده اليوم من أجهزة كمبيوتر متطورة. لقد كانت بمثابة قفزة فى مجال السعى لمحاكاة التفكير البشرى، واصطناع آلية تقترب من الذكاء «الاصطناعى».
وقد لاحظ أحد كتاب سيرة باباج أن «دلالة التوصل إلى تلك الآلة الميكانيكية لا يمكن التقليل من شأنها، فبمجرد تحريك الكرنك باليد، أى بعد إنتاج قوة فيزيقية، أصبح ممكنا للمرة الأولى تحقيق ما كان قاصرا حتى تلك النقطة التاريخية على الجهد العقلى، أى التفكير. لقد كانت أولى المحاولات الناجحة لتجسيد ملكة التفكير فى آلة غير بشرية». كانت خطة باباج أن يروج لآلته الجديدة بين أكثر الفئات تأثيرا فى عصره للحصول على دعمهم. لكى يستطيع بناء آلة أكثر تطورا.
فأقام حفلات كبرى فى منزله بلندن دعا إليها ما يصل إلى ٣٠٠ من النخب الاجتماعية والثقافية والسياسية. كان من بين ضيوف تلك الحفلات تشارلز دارون والكاتب تشارلز ديكنز، وكان العديد من الشخصيات العامة يتوقون للتواجد فى بيت ذلك المتحدث اللامع والمخترع العبقرى، والاحتفال بوجودهم فى حضرة باباج وآلته المدهشة.
لم يكن ممكنا عرض كل أجزاء تلك الآلة الضخمة التى يضيق عنها المنزل، ولذلك كان باباج يكتفى بعرض نموذج لجزء منها صمم خصيصا بهدف تسلية ضيوفه.
وكان ذلك النموذج يبلغ قدمين ونصف القدم طولا، وقدمين عرضا وقدمين عمقا......... وللحديث بقية