لم تعرف مصر خطرًا مثل ما تتعرض له الآن فى معركة الوعى وتشكيل الرأى العام، لأول مرة تجد الدولة المصرية نفسها فى معركة لا تحتاج فيها استعدادا عسكريا أو دعما دبلوماسيا أو تحالفا استراتيجيا، معركة لا تدور على الأرض أو السماء أو فى أعالى البحار، صحيح أن مصر ليست محتلة كما كانت فى منتصف القرن الماضى، ولا توجد قوات أجنبية على أراضيها، ولكنها تبدو مترنحة تحت تأثير نجاح الجيل الرابع من الحروب، فالقذف اليومى بالأخبار السلبية والشائعات قبل وبعد ثورة ٢٥ يناير مع حال الإعلام المذرى فاق فى تأثيره قصف الصواريخ والمدفعية الثقيلة على عقول المصريين وأقترب بهم مما حذر منه الرئيس السيسى وهى حالة الانتحار القومى.
مكمن الخطر قادم من غياب ثقة المصريين فى أجهزة الدولة وبالأخص فى أجهزة إعلامها المكتوبة والمرئية والمسموعة، واعتمادهم فى المعرفة على وسائل التواصل الاجتماعى، وتغير موقعهم من دور المتلقى إلى دور الخبير العارف بخبايا الأمور، وصاحب الرأى السديد دون خبرة سابقة أو معلومات حقيقية فى أى مجال، إضافة إلى ظهور نوعيات غريبة من الشباب تتكسب من زيادة الفلورز وتستغل الاهتمام بها فى ترويج الشائعات وكسر القيم الاجتماعية ليسهل التأثير فى الأجيال الجديدة فى ظل غياب القيم والمثل العليا وأهمها الحفاظ على الوطن وبقاء الدولة.
ويتعرض المجتمع المصرى إلى هجمات يومية من جيوش غير مرئية تلقى قضايا ينشغل فى تفسيرها طوال الوقت مما يشتت انتباهه عما يجرى من عمليات تنمية غير مسبوقة تجرى على أرضه، وتستخدم تلك الجيوش مواقع إلكترونية وحسابات فيسبوكية لترويج المعلومات المضللة والآراء المتطرفة، ثم تعززها بالنشر فى مواقع معروفة خارج مصر لتحصل على المصداقية، بالإضافة إلى عمليات تلاعب واسعة وممنهجة فى فيديوهات المسئولين المصريين والترصد لزلات لسانهم أو تشبيهاتهم لتشويه صورة الدولة المصرية وإظهارها فى صورة الضعيفة أو المتآمرة على الشعب ومقدراته.
ومع الوقت تعود المواطن المصرى على استخدام الفيسبوك فى الحصول على المعلومة وعدم التركيز فى معرفة حقيقتها ومن ثم تجاهل البيانات الرسمية، فى ظل غياب معالجات مهنية فى الصحف لإشباع احتياجاته، بل سارت وراء «أجندة» الفيسبوك واستهلكت البهارات والتوابل الصحفية فى العناوين ومتن الأخبار حتى تلقى الاهتمام المطلوب من شعب الفيسبوك الذى يقتات على المصائب والكوارث والحرائق والقتل والفيديوهات التى تعكس المعاناة وصعوبة المعيشية، فى مشهد هيستيرى لن تجد له مثيلا فى العالم، فأداة التواصل والترويح عن النفس وتبادل الصور اللطيفة، تحولت فى مصر إلى ساحة معركة كبيرة يتسابق فيها الجميع لتدمير الوطن.
إننى أراها معركة أصعب على الدولة من معركة تحرير الأرض، ففى أكتوبر ٧٣ كان العدو واضحا والهدف ظاهرا، والكل على قلب رجل واحد، واليوم يتشدق الجميع بحب الوطن بينما قلوبهم شتى، ولعل الكاتب الكبير عباس الطرابيلى رئيس تحرير الوفد والكاتب المعارض لأكثر من ٢٥ عامًا، قد أجاد فى وصف تلك الحالة حينما وصف الإعلام المصرى بأنه لا يساهم فى أى برنامج للإصلاح، بل يحرض الناس على الثورة ورفض أى محاولة جادة لعلاج ما نحن فيه، مؤكدا أن أى إصلاح يقتضى كثيرًا من التضحيات قد تصل إلى حد أن نأكل وجبتين بدلًا من ثلاث وجبات، وربما قد يصل بنا الأمر- إن ساءت الأمور عن ذلك- أن نكتفى بوجبة واحدة، وأتمنى ألا تصل بنا الأمور إلى هذا الحد، بينما يغذى الإعلام الغضب بقضايا الأسعار والدولار بدلًا من أن يشرح للناس أسباب هذا الغلاء ويتجاهل ذلك تماما، فى تحريض سافر على الحكومة والدولة المصرية.
لسنوات طويلة غابت الأجندة الوطنية والإعلام التنموى عن الإعلام المصرى، وحلت محلها أجندات حزبية تفرغت للصراعات والتلاسن وتصفية الحسابات وتحقيق المكاسب المادية، مما دمر مصداقيته وثقة الناس به، ووضع الدولة المصرية الآن فى خطر حقيقى نبحث عن مخرج منه.
وللحديث بقية..