كان أول الدروس التى تعلمتها عمليًا فى طفولتى عن قيمة العمل من إحدى صديقات الطفولة، والتى كنت أكن لها حبًا شديدًا لتفوقها وجمالها ورقتها، وهى (بريهان الريدى) ابنة أحد رجال الأعمال، والتى كان والدها يمتلك عدة شركات ومصانع ومطاعم، وكانت دائمًا بعد انتهاء الإجازة الصيفية ونحن فى المرحلة الإعدادية تحكى لى عن عملها فى أحد مصانع أدوات التجميل التى يمتلكها والدها، حيث كانت تقوم ببعض الأعمال البسيطة (كتلميع أحمر الشفاة) مقابل أجر يومى يحدده والدها نظير هذا العمل الذى تقوم به، وعلى ما أتذكر كان المقابل خمسة جنيهات يوميًا، وكانت تشعر بفخر لامتلاكها أموالًا من عمل يديها وليس مجرد مصروف من والدها، ورغم أن الأب فى غنى تام عن عملها هى وأشقائها، وبالتأكيد يملك من المال الكثير ولا يبخل به على أبنائه، ولكنه يريد أن يزرع فى نفوسهم، رغم الثراء، قيمة العمل، فلم يفعل كالبعض الذين يدللون أبناءهم لدرجة الإفساد، فيصبحون كما يقال فى الأمثال الشعبية: «مولودون وفى فمهم ملعقة ذهب»، فلا يملكون الخبرة، ولا يستطيعون التعامل مع صعوبات الحياة، ولكنه أراد أن يبنى شخصيات أبنائه ليعلموا قيمة العمل وقيمة المال الذى يأتى من عرق الجبين، حتى يتعلموا المسئولية ويكونوا كمن بدأ من الصفر، فيستطيعون إدارة أموالهم وأملاكهم بعد ذلك، ويحافظون على ما فعله طوال حياته.. ولم يخجل أبناؤه من المشاركة كعمال مقابل يومية كأى عامل فى المصنع ولكن بالعكس كانوا يتفاخرون بذلك، وكان هذا هو الدرس الأول الذى تعلمته عن العمل كقيمة بحد ذاتها.. ولكن للأسف أصبحت هذه القيمة غائبة بين الكثيرين من الشباب والشابات الذين هم فى أوج قوتهم وقدرتهم على العمل، وذلك بحجة أنهم لا يجدون عملا مناسبا!!.. وقد كنت أظن وغيرى الكثيرين أن أحد أهم مشاكلنا فى مصر هى البطالة، وأن الحكومة مقصرة فى حق الشباب، ويجب أن تقوم بتوفير فرص عمل لهم، بدلا من ترك الطاقات المعطلة لشباب وشابات فى قمة قدرتهم على العطاء، حتى وجدنا أنفسنا فى حالة تستحق التأمل والبحث، فالإخوة السوريون الذين جاءوا إلى مصر هربًا من الحرب التى فرضت عليهم والظروف المعيشية والصحية الصعبة التى نالتهم نتيجة للانهيار الأمنى والتفكك الذى حدث للشقيقة سوريا، استطاعوا أن ينخرطوا فى العمل الحر فى الكثير من المجالات دون النظر إلى قلة المقابل المادى، حتى حفروا لأنفسهم أماكن فى سوق العمل ولم يقفوا عاجزين بدعوى البطالة التى يعانى منها شبابنا!! فهل بالفعل نعانى من البطالة أم أن التوصيف الحقيقى أن الشباب لا يجدون العمل الذى يرغبون به، أو الذى يرونه لا يتناسب مع مؤهلاتهم وبالتالى يرفضون العمل سوى بشروطهم، فيتعالون على الأعمال المتاحة رغم أنها يمكن أن تفتح لهم أبوابا أخرى إذا لم يقفوا مكتوفى الأيدى.. وهو ما يؤكد أننا نفتقد ثقافة العمل التى فرضتها علينا كل الأديان والقيم الإنسانية والأخلاقية، فهناك من يستحلون الخمول والجلوس على المقاهى بدعوى أنهم لا يجدون عملا، رغم أن هناك الكثير من المجالات أو الأعمال التى يمكن أن يقوموا بها، ربما لا ترضى طموحاتهم، ولكن قيمة العمل فى حد ذاتها وكسب العيش بالجهد الشخصى وعرق الجبين تستحق العناء والتضحية حتى يصل الإنسان إلى ما يرغبه ويستحقه، وقد شاهدت نموذجا مشرفا لأحد الشباب والذى يعمل والده فى مركز مرموق، ولكنه بعد تخرجه مباشرة ظل يبحث عن عمل يناسبه ولم يجد أى فرصة سوى العمل فى أحد المطاعم الشهيرة، وبالفعل وافق الشاب رغم أن العمل كان يتطلب منه القيام بكافة الأعمال، حتى تنظيف دورات المياه!! ورغم أنه مدلل وابن عائلة كبيرة لكنه لم يخجل من العمل رغم شعوره بالضيق، ولكنه أصر ألا يجلس فى المنزل عالة على والديه ويمد يده لأخذ المصروف، ولم يمر من الوقت الكثير حتى أثبت نفسه فى العمل وتمت ترقيته فيه، وفى نفس الوقت لم يكن مستسلمًا لهذه الوظيفة التى لم تكن ترضيه معنويا بل ظل يبحث عن عمل آخر يرضى طموحه، وبالفعل حصل على وظيفة ممتازة فى إحدى الوزارات بعد عامين تقريبًا من عمله الشاق.. وهناك العديد من النماذج، كهذا الشاب، لم يستسلموا بحجة البطالة والنظرة السوداوية للحياة والتكاسل وتحميل مشكلاتهم على شماعة الدولة التى يجب أن توفر فرصًا للعمل.. فقد أمرنا الله بالعمل والإتقان فيه، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه»، وفى قول الله تعالى فى سورة الملك: «هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ».. إننا نحتاج استعادة قيمة العمل والاجتهاد فى نفوسنا، وأن نرفض كلمة البطالة والاستسلام لها، فالبطالة الحقيقية هى بطالة العقل والإبداع، وصدقت الحكمة التى تقول: «من جد وجد ومن زرع حصد ومن سار على الدرب وصل».
آراء حرة
البطالة الحقيقية في العقل والإبداع
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق