الأحد 22 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

الموقف الغريب للمثقفين المصريين بين 1954 و2014

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لا يزال يثير حيرتى ـ وتساؤلات كثيرة لدى وفيما أحسب لدى غيرى ـ الموقف الغريب للمثقفين المصريين بين 1954 و2014.
وأعني بالمثقفين المصريين هنا: معظم المثقفين الليبراليين، ومعظم المثقفين اليساريين.
في 1954 قام شباب وطني مخلص، من ضباط الجيش، بثورة ضد الفساد في الجيش والذين على رأسه من جنرالات، وضد استبداد سلطات الاحتلال وأدواتها في الحكم، مقدمين أرواحهم فداء للوطن والغالبية الساحقة من الشعب المضطهد الفقير.
وقد كان واضحاً أن ما قاموا به هو ثورة ومن أول يوم، وليس انقلاباً أي عملية لإحلال عناصر في السلطة محل أخرى، مع الإبقاء على ذات السياسات.. وإنما هي ثورة بكل المعاني والأبعاد، خاصة مع الإصرار منذ اللحظات الأولى على إنجاز مهمة الجلاء وإتمام الاستقلال الذي استشهدت في سبيله طلائع أجيال على مدى ما يقارب ثلاثة أرباع قرن.. وخاصة أيضاً مع الانحياز والإنصاف السريع لأوسع طبقتين والأكثر تعرضاً للظلم والحرمان: الفلاحين (بالإصلاح الزراعي الأول)، والعمال (بجرعة إجراءات عاجلة: كمنع الفصل التعسفي).. افتتاحاً للثورة الشاملة على صعيد العدالة الاجتماعية.
ومع ذلك الوضوح والسطوع كله، الذي وصل سريعاً وقوياً إلى حس وعقل جموع الشعب الواسعة، التي أيدت واحتضنت الثورة ورموزها منذ ميلاد الثورة.. إلا أن الأمر بدا على العكس من ذلك بالنسبة لنخب ومثقفين، خاصة في أوساط ليبراليين ويساريين، وبدا كثير من الخلط والالتباس!.
بل سرعان ما ردد هؤلاء: لا ينبغي أن يقود البلاد الفتية الذين قاموا بعملية التغيير في ليلة 23 يوليو 1952.. كما رفعوا بإصرار شعار: عودة الجيش إلى "ثكناته"!.. وأن يتركوا السياسة للسياسيين، وفي تلك الآونة (التي عرفت بأزمة مارس 1954)، وصف الأديب الصحفي الليبرالي الشاب وقتها "إحسان عبد القدوس" قادة الثورة في مقال مشهور يستهجن بأنهم: "الجمعية السرية التي تحكم مصر".. وأن عليهم من فورهم أن يبتعدوا، وكذلك مثلاً كتاب عائلة أبوالفتح وجريدتهم "المصري".. فضلاً عن الشيوعيين الذين حكمتهم عقدة انقلابات سوريا المدعومة من المخابرات البريطانية والأمريكية (الشيشكلي ـ حسني الزعيم).. واعتبروا بضيق أفق أو تسرع، أن ما حدث في مصر ليلة 23 يوليو ما هو إلا انقلاب عسكري (أو ربما أمريكي أيضاً) على نفس الدرب والطريقة!.. وأنه يقطع الطريق على الثورة القادمة والمزعومة بقيادة اليسار!.. وقد ناصب كل هؤلاء الثورة الوليدة العداء، وتفجر الموقف ضدها بتحالف ليبرالي يساري، والباشاوات القدامى جنباً إلى جنب جماعة الإخوان المسلمين.. مستخدمين جميعاً مع الأسف كأداة وواجهة اللواء محمد نجيب، الذي كان قدمه شباب الثورة كوجه وطني ورمز محترم، الأكبر سناً ورتبة وإن لم يكن له أي دور في الإعداد للثورة.. لكنه صدق ذات لحظة أنه القائد والحاكم الفعلي وإما أن يكون كذلك وإلا فسيتحالف مع الخصوم.. (حتى وإن أدى الأمر إلى تصفية الثورة على حد تعبير خالد محيي الدين نفسه عن موقف اللواء نجيب في الأزمة!).
ورغم انتخاب جمال عبد الناصر، قائد الثورة وعقلها ومؤسس تنظيمها بلا منازع، ورغم التفاف الجماهير المتعاظم ونادر المثال حول قيادته وقيمته، معركة بعد معركة ومرحلة فأخرى.. إلا أن الكثير من الليبراليين واليساريين ظلوا (وبعضهم إلى اليوم!) يقولون: كيف يحكم واحد من الجيش؟.. إنه العسكري.. إنه حكم وتحكم وانقلاب العسكريين!
الغريب المدهش، في ما نشاهد ونعايش، أن عديدين، بل كثرة من مثقفينا الليبراليين واليساريين، بعد ستين سنة بالتمام (في 2014).. راحوا يرحبون كل الترحيب "بالسيسي" رئيساً من الجيش أيضاً.. ولا يجدون في ذلك أدنى غضاضة.. ولم يقولوا له قط بعد الثورة الشعبية الثانية في 30 يونيو 2013، وتأييد الجيش لها في 3 يوليو: لقد قام الجيش بدوره.. ليعود إذن إلى الثكنات!.. بل قالوا له: تعال.. واحكم.. و"كمل جميلك"!.
ولست أفهم حتى الآن، سر ولغز هذا التناقض.