يعتقد رجل الأمن وهو يلقى القبض على الشباب الذى يبدى غضبا واعتراضا على ما لا يعجبه، أنه بذلك يحمى الوطن من أوغاد يريدون تدميره، يتآمرون عليه ليجعلوا منه جثة يرقص عليها الأعداء، ينظر إليهم على أنهم عملاء وممولون، لا يعشقون تراب هذا البلد كما يعشقه هو، وعليه فلا مكان لهم إلا السجن.
يجتهد رجل الأمن بعد القبض على خصوم الوطن فى عمل محضر تحريات يدينهم ويحولهم إلى مجرد مجرمين، لأنهم من وجهة نظره ليسوا إلا كذلك، حتى لو أقسمت له بكل الأيمان المغلظة أنهم يحبون هذا الوطن مثله تماما وربما أكثر منه.
عندما تصل هذه الأوراق إلى القاضى يأخذ بها على الفور، فأمامه المؤامرة مكتملة، الشباب الذين يقفون أمامه كاذبون حتما، فقد خرجوا يخربون بلدهم، لكنهم يحاولون إظهار أنفسهم كمتظاهرين أبرياء، لم يقترفوا إثما، ولم يخالفوا قانونا، ولذلك يصدر أحكامه بقناعة أنه يطبق القانون الذى هو مؤتمن عليه، ولا يمكن أن يلومه أحد على ذلك.
من بين هؤلاء الشباب أنفسهم خرجت فئة كانت بالأمس القريب غاضبة وساخطة، لكنهم الآن ركنوا إلى الراحة ومكاسبهم المادية الهزيلة، ينظرون إلى من يتظاهرون غضباً واحتجاجا على أنهم «سرسجية» مكانهم السجون، لأنهم خطر على الأمن القومى، واستقرار ومستقبل البلاد، فلا يجب أن تأخذنا بهم رحمة.
دعك من هذا الجدل، لأنه سيتكرر فى كل مرة تواجهنا أزمة مصير مئات الشباب الذى قرر أن يقول رأيه، ويغضب لما يعتقد أنه صواب، وتعالى معى لمواجهة لحظة أخرى هى الأكثر تكثيفا وألما ويأسا وإحباطا وكفرا بكل شىء.
لا تهاون مع من يخون هذا الوطن... هذه قاعدة لا يمكن أن يزايد علىّ بها أحد.
لكن هل هؤلاء الشباب الذين سرقنا من أعمارهم فى يوم واحد ما يزيد علي ٦٠٠ سنة ( مجموع الأحكام التى صدرت ضد من تظاهروا فى ٢٥ إبريل) خانوا هذا الوطن؟، قولا واحدا لا يمكن أن نتهم أحدا منهم بالخيانة، لكن فيما يبدو أننا نقودهم بأيدينا ليس إلى الخيانة فقط، ولكن للبحث عن وطن آخر يكون أكثر فهما لهم ورفقا بهم وحنوا عليهم.
الأسماء لا تهم، فلن يفرق محمد عن محمود، ولن يختلف كثيرًا على عن إبراهيم.
والوجوه لا تشغلنا، فعليها جميعًا نفس الأسى والحزن والغيظ.
لا تغرنكم ابتسامات الشباب خلف القضبان الحديدية، لا تنخدعوا بعلامات النصر، فهم مهمومون بأكثر مما يحتمل أحد، ومهزومون بأكثر مما يعتقد أحد، لكنها حلاوة الروح التى بها يعيشون، على أمل استرداد حرياتهم.
لا أدعو هنا لتجاوز قانون، ولا أقلل من الأخطار التى نتعرض لها من الداخل والخارج.
لكن لا يمكننى تجاهل مصانع الكراهية التى نبنيها فى كل زنزانة يدخلها شاب جديد، يعرف تماما أنه لم يخرج إلا من أجل مصلحة الوطن كما يعتقد ويرى.
فهل قررنا أن نجعل الخلاف فى وجهات النظر جريمة لا تغتفر؟
وهل سنتعامل مع كل من يقول رأيا مخالفا على أنه خصم لابد من سجنه وإقصائه عن الصورة تماما؟
أصدق تماما أن هناك من يتآمر على هذا الوطن، وأعرف أيضا أن هؤلاء معروفون بالاسم، وتمتلك الأجهزة الأمنية أدلة تدينهم، فلماذا لا تحاصرهم بدقة، لماذا نوسع أرض المعركة، ونحشد فيها ضدنا من بين أبنائنا من نحتاج لهم فى معركة البناء والبقاء؟
هذا الوطن ملك للجميع، فلا تجعلوه حكرا على البعض فقط.
لا تقسموه، ولا تفتتوه.
اجعلوا الشباب يحلمون بمستقبلهم فيه، لأن البديل هو البحث عن وطن آخر، وساعتها لن يسامحكم أحد.. ولن يغفر لكم.