العلاقة الخطيرة بيننا وبين الطفل الداخلى الذى يسكن فينا – كره الذات
عندما سحبت صورة لى من ألبوم صورى وأنا فى عمر 6 سنوات توقفت طويلا طويلا أمام هذه الابتسامة الرائعة البريئة على هذا الوجه الصغير الضعيف الحالم المرسومة بخطوط قلم ذهبى مداده من قلب هذا الطفل.
نظرة بسيطة إلى الكاميرا وكأن الكاميرا صدقت بسحر هذه النظرة، وعجلت بسرعة توثيق هذه اللحظة النادرة، كأن الكاميرا تعرف أنها لحظة فراق لن تدوم طويلا، فهى زائلة لا محالة، سبحان الله حتى الحجر والحديد له طاقة ويسبح بحمد الله ولديه إرهاصات نحن لا نفهمها ولديهم إحساسا أيضا بالبشر.
هذا الطفل البريء الطيب الساذج الذى لا يعرف إلا الحب، هذا الطفل وهبه الله سبحانه وتعالى قيما عالية ومواهب فذة يشعر بها داخل قلبه ويبتسم للحياة حبا وأملا فى القادم، هذا الطفل يمتلك عقلا لم يفعل ولم يبدأ عمله بعد فكل العمليات تدار من داخل قلبه، هذه الابتسامة تسكن داخل قلبه ولا تفارقه أبدا، سنوات من الرخاء والسباحة فى عالم شاسع من الممتلكات، ممتلكات ليست كالتى يعرفها العقل أو التى تموج فيها شهوات النفس ولكنها ممتلكات من الحب والإحساس بالأمان واحتضان الأمل والثقة فى كل شيء.
الصورة الآن ضاع منها هذه العالم الجميل وسكن فيها الألم والعبوس الصورة الآن لا تعكس ما كان وكأنى مخلوق آخر لا يمتلك من الماضى إلا هذه الجروح التى طمست معالم الفرحة والسكينة وحب العالم.
نظرة صعبة وفكرة مؤلمة هل هذا هو الطفل من كان يعيش هذه السعادة هو من أنا الآن الغارق فى متاهات القلق والتشكك والحزن على الأحلام الضائعة، أنه لمن الصعب تصديق هذا وكأنى أغوص فى عمرا بعيدا بعدا سحيقا ملقيا فى أحضان التاريخ البعيد، هل من الممكن أن أكون قد بعدت عن هذا الطفل كل هذا الزمن، هذا الطفل البريء الذى لا أستطيع أن أساعده الآن لم يكن يدرك ما هو آت وما هى حجم الآلام التى بانتظاره.
هذا الطفل لم يكن يخطر فى ظنه هذا الكم المرعب من السحابات المظلمة التى سوف تمر على حياته، ولا كثافة الآلام التى عليها أن يتعلم كيف يحتملها، فجأة ضاع الاحتضان وتفككت خيوط الأمان وأصبح هذا الطفل بلا عائلة وبدأ فى كرهه لى معتقدا أن كل شيء فى وفيه معيوب ومذنب ولا بد من عقابه.
ضاعت الابتسامة وأصبح هذا الطفل محطما يرانى عدوا لهو لا أستحق إلا العقاب، وكبرت وكبر مع طفلى الداخلى هذا الاعتقاد وأنا فى غياهب أحداث الحياة، معتقدا بأكبر قدر من الغباء أن هذا الطفل الداخل نام ونسى ما كان، وأنه أنا هنا والآن وأصبحت غافلا عن أن الطفل الداخلى هو فى الحقيقة من يحرك مسرح الأحداث فى حياتى أمس واليوم وغدا، هذا الطفل لا يعرف إلا الصورة السيئة التى شكلها ورسمها عنى وأصبحت الحياة تحاكى هذه الصورة وتعطينى انعكاسات هذه الصورة من ألم وعقاب طوال الوقت.
طفلك الداخلى هو الفاعل والمؤثر وله هذا الصوت الغامض الذى يحرك كل كيانك وأنت لا تدرى، لا ينفك يقول طوال الوقت أنا أكرهك ولا بد أن تعيش معذبا كما عذبتنى، وأنك لا تستحق أى خير أو سعادة، الغريب حقا فى هذا الأمر أن الحياة لا تسمع ولا تعرف إلا لغة ومعتقدات هذا الطفل الداخلى، فالحياة لا تفهم لغتنا البشرية ولا مفرداتها , الحياة لا تفهم إلا لغة المشاعر والترددات التى يتقنها طفلنا الداخلى تماما.
العقاب أصبح هو الشيء الوحيد الذى يجمع بينى وبين طفلى الداخلى، ضاعت الابتسامة وحل محلها هذا الانتقاد الوارد من صوت طفلى الداخلى.
من كان يعتقد أن كل طفل فينا يعيش معنا وداخلنا للابد الطفل فينا لا ينام ويمحى ذكرياته ولا يعرف الزمن ولا بعد المسافات كل الآلام التى عاشها هذا الطفل تظل معلقة فى رقابنا، تنادى وتصرخ طوال العمر وهل من مجيب.
ولكن أنت وأنا والطفل الداخلى خلقنا الله أبرياء نستحق الحياة ونستحق كل خير، الله سبحانه وتعالى لم يخلق إنسانا ليعذبه فى الأرض، ظروف الحياة والنشأة سرقوا منا هذه البراءة وأوهموا الطفل الصغير الذى عشناه ولا يزال يعيش فينا أننا لا نستحق إلا العقاب وكره أنفسنا، الطفل الداخلى فينا شعر بعدم الأمان وظلم الحياة ورسخ فى معلوماته هذه الأفكار السلبية وشكل هذه الصورة الذهنية عن أنفسنا بعدم الاستحقاق.
وتوهم أنه لا بد أن يعيش فى صراع مع العالم مع أن الحقيقة أن هذا الصوت الداخلى الذى يئن بداخلنا ما هو إلا وهم وزيف وأفكار مغلوطة تم تجميعها فى قلب هذا الطفل الداخلى الذى يعيش فينا، ويملى علينا أفكار مليئة بالخوف وعدم الثقة، كل مشاكل العالم وبؤسه من هذا الصراع والصوت الخفى الذى يتردد داخل عقولنا فالطفل الداخلى أبدا لا يسكت ولا يكل فهو خائف وقلق ويحتاج إلى من يطمئنه.
آن الأوان أن يصل إلى إدراكاتنا جميعا أن حياتنا يحمكها هذا الطفل الداخلى our inner child وهـــــذا الطفل الداخلى يتعامل ومعنا ويدفع الحياة للتعامل معنا من منطلق هذه الصورة كونها عندما كـــــــــان ضعيفا بريئا فصدق كل ما قيل لنا، ورسخ هذه المعتقدات داخل اللاوعى، نحن لا نستطيع أن نفسر تصرفاتنا وتصبح الأمور غامضة علينا فى فهم مغزى تصرفاتنا وردود أفعالنا ولكن الآن لا بد أن ندرك أننا ليس علينا أن نتعذب أو نعانى وأن ما مررنا به تسبب فى إنبات هذا الوهم فى تصوراتنا السلبية عن قدراتنا وعن ما نستحق من الحياة.
اسأل هذا الطفل بهدوء عن الذكريات المدفونة تحت الجلد والتى لا يعرفها ولا يتذكرها إلا هو، اسأله أن يخرجها إلى عقلك الواعى لترى النور وتجد الإجابات المنطقية، وتقول وتخاطب هذا الطفل فى نفسك أن هذه الأحداث التى مرت عليك وفقر وألم وفراق وخوف لم يكن لى أى يد فى خلقها أنا لم أخلق هذه الظروف، بل أنا لم اختر، والله كان هذا قدر الله سبحانه، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وله حكمة فى ذلك لا يعلمها إلا هو، اطرح على طاولة المفاوضات بينك وبين الطفل الداخلى كل الأحداث وبشكل يومى وتحدث إليه فى نفسك، حتى إذا بكى هذا الطفل داخلك واشتكى من الظلم والظلمات التى وقعت عليه وهو بلا ذنب أبكى معه، فأنت هو وهو أنت، بل هو أهم وأخطر مخلوق يمكن أن تنشأ معه علاقة، إنها علاقة حياتك وعالمك كله.
آن الأوان أن نخاطب هذا الطفل الكامن بداخلنا بلا خجل ولا مواربة، ونقول له كل يوم وكل لحظة أنت ملء الفراغ، أنت ملء كيانى، أنا أسمعك وأشعر بك، وأتأسف لك عن تجاهلى لك وكرهى وانتقادى لك طوال هذه السنوات.
أنا الآن أعلنها صريحة لكل خلية فى كيانى يسكن فيها هذا الطفل البرئ الذى تشوهت معلوماته عنى بفعل ظروف قهرية لم يكن لى يد فى خلقها، أنا أعلنها صريحة أننى إحبك وأشعر بك، فوالله إن كرهك لى ولذاتى أضاع كل طاقتى وسلبنى القدرة على إسعاد نفسى وأضر بمن حولى وحولنى إلى منتقد ناقم على كل شيء وأفقدنى القدرة والطاقة على تحقيق الهدف من وجودى على الأرض.
أنا أراهن لكل من يفعل ذلك أن تتفسر لديه كل الأمور الغامضة فى حياته، وسوف يدرك أن كل الآلام التى مر بها لم تكن قدرا محتوما وأنه الآن وليس غدا يستطيع أن يغير كل شيء إلى الأجمل والأحسن إن شاء الله.