صنع القرار كما تحدد أبعاده المراجع الموثوقة فى علم الإدارة عملية بالغة التعقيد. فهو يحتاج أولًا إلى التوثيق الدقيق للوقائع، ثم هو من بعد لابد أن يعتمد على المتخصصين فى الميدان الذى سيصدر القرار فى مجاله. والمشكلة أن هؤلاء المتخصصين لو انغلقوا على أنفسهم داخل جدران حصينة من تخصصهم قد تؤدى قراراتهم إلى مشكلات جسيمة وأحيانا إلى كوارث فادحة!
ونعنى بذلك على وجه التحديد أن المتخصص الذى سيصدر القرار بصدد موضوع ما - أيا كان - عليه أولًا أن يدرك طبيعة المرحلة التاريخية التى يمر بها المجتمع، وعليه أن يزن بدقة الجوانب السلبية والجوانب الإيجابية فى القرار، وعليه أخيرًا أن يضع فى اعتباره ردود الفعل للقرار سواء صدرت من المتخصصين أو من الرأى العام.
ونستطيع أن نضيف إلى كل ذلك أهمية صدور القرار فى الوقت المناسب بدون تأخير وبدون تسرع أيضًا.
فى ضوء ذلك نستطيع التأكيد أن عملية صنع القرار فى مصر المحروسة تعانى من مشكلات متعددة بسبب تجاهلها للقواعد التى ألمحنا إليها.
وأصدق دليل على ذلك القرار الخاص الذى اتخذته بعض قيادات الأمن فيما يتعلق باقتحام نقابة الصحفيين للقبض على صحفيين صدر بشأنهما أمر قبض وإحضار من النيابة العامة.
وفى تقديرنا أن هذا القرار قد خالف كل قواعد عملية صنع القرار والتى أشرنا إليها من قبل.
وأول مخالفة جسيمة هى أن قرار النيابة العامة بصدد القبض والإحضار اعتمد على تحريات الشرطة عن المتهمين ونسب إليهما مجموعة من التهم بعضها يمكن اعتباره من التهم المرسلة مثل التحريض على قلب نظام الحكم.
ونعتقد أن النيابة العامة - بما لديها من سلطة تقديرية كفلها لها القانون- عليها أن تدقق كثيرًا فى محاضر التحريات لكى تتأكد من جديتها، كما أنه من واجبها القانونى التعمق فى توصيف التهم المسندة إلى المتهمين والتى تبرر القبض عليهم وإحضارهم.
بعبارة أخرى تستطيع النيابة العامة إذا استشعرت عدم جدية التحريات أو مبالغتها فى توصيف السلوك المسند للمتهمين عدم إصدار أمر بالقبض والإحضار.
ونأتى بعد ذلك لدور الشرطة التى تقرر أنها إنما نفذت أمر النيابة العامة بالقبض والإحضار للمتهمين.
وقد تبين للشرطة أن الصحفيين المتهمين موجودان فى دار نقابة الصحفيين، وكانت تستطيع الاتصال بنقيب الصحفيين وتخبره أنه فى دار النقابة هناك صحفيان متهمان بمجموعة جرائم يعاقب عليها القانون، وتطلب تعاونه لتسليمهما بهدوء إنفاذًا لقرار النيابة العامة.
غير أن قيادات الشرطة - بدلًا من اتباع هذا الأسلوب الهادئ- اقتحمت مقر نقابة الصحفيين للقبض على الصحفيين المتهمين، وهو إجراء لم يحدث إطلاقًا من قبل فى تاريخ النقابة فى ظل كل النظم السياسية المتنوعة التى طبقت فى مصر.
وقد أدى هذا الإجراء العنيف إلى رد فعل صحفى جماعى لأن الصحفيين اعتبروا ذلك عدوانًا عليهم ليس له أى مبرر، مما أحدث أزمة خانقة بين النقابة والنظام.
وهذه الأزمة ترد فى الواقع إلى الخطأ فى اتخاذ القرار، والخطأ الأخطر فى طريقة تنفيذه بالصورة التى تم بها.
وفى تقديرنا أنه تعددت الحالات التى يتسبب فيها قرار معين سياسى أو غير سياسى فى إحداث أزمات حادة نحن فى غنى عنها، لأن البلاد تمر منذ ٣٠ يونيو بمرحلة فى منتهى الحساسية.
وذلك لأن عودة الدولة التنموية - كما أطلقنا على الدولة المصرية فى ظل رئاسة الرئيس «عبدالفتاح السيسى» - برزت مرة أخرى بمعنى قيام الدولة بالتخطيط للتنمية القومية، وتنفيذ برامج التنمية بواسطة أجهزتها المختلفة بغير استبعاد القطاع الخاص.
وقد أكدنا فى سلسلة مقالات نشرت فى الأهرام، وأعدنا نشرها فى الكتاب الذى سيصدر قريبًا عن «المركز العربى للبحوث» بعنوان «الدولة التنموية: المشكلات الراهنة والسياسات البديلة» أن الدولة التنموية لن تنجح فى مشروعها إلا لو تجددت باقى الأطراف السياسية فى النظام. ونعنى على وجه التحديد تجدد الأحزاب السياسية لكى تصبح أحزابًا تنموية لها رؤية تنموية محددة تسمح لها بالقراءة النقدية لخُطة مصر ٢٠-٣٠ التى أعلنها من قبل الرئيس «السيسى»- ليس ذلك فقط بل عليها أن تنزل إلى مجال التنمية، وتشارك فى صياغة برامج تنموية متوسطة وصغيرة لمساعدة الدولة التنموية فى سعيها الحثيث نحو مواجهة التخلف والفقر.
وكذلك الحال بالنسبة لمنظمات المجتمع المدنى التى تقنع - تحت إغراء التمويل الأجنبي - بالمطالبات الحقوقية، والتى تتمثل فى الحرية السياسية وتنسى حقوق المواطن الاقتصادية فى العمل والسكن والعلاج والمعاش. ونفس المسألة فيما يتعلق بالنخبة السياسية والثقافية والتى عليها واجب التجدد المعرفى لرصد وتحليل التغيرات العالمية، وفهم منطقها الكامن وتأثيراتها العميقة على التنمية فى بلادنا.
وهكذا يمكن القول - بغير مبالغة - أن أساليب صنع القرار فى مصر تحتاج إلى مراجعة جذرية تحقيقًا للصالح العام وضمانًا للاستقرار السياسى.