- القاهرة والرياض اختلفتا على أولوية المواجهة مع "الإخوان" بعد وفاة الملك عبدالله
- لقاء "حماس" في المملكة أزعج مصر
-اختلاف في وجهات النظر حول طريقة التعامل مع الأزمة السورية وإسقاط "الأسد"
- تباين في "الانفتاح الزائد" على موسكو ومقابلة مقربين من علي عبدالله صالح والحوثيين
لا يمكن أن أنطلق في الحديث عن العلاقة بين المملكة العربية السعودية ومصر من أرضية أن كل شيء كان تمامًا طوال الوقت، فمنذ وفاة الملك عبدالله بن عبدالعزيز، والعلاقة بين البلدين الكبيرين، أقرب ما تكون إلى علاقة الصمت المريب. أمسكنا خلالها بدلائل كثيرة، كنا نعرف أن هناك تحت الصمت ما ينذر بخطر، لكن في كل مرة كان الخطاب الرسمى الصادر عن البلدين أنه لا شيء ينذر بشرّ، وكنا نصدق ذلك، لأننا كنا نتمنى أن يكون صحيحًا.
لم يمنعنا ذلك بالطبع من أن نرصد بعض الخلافات، التي يمكن أن نضعها على محمل حسن النية بأنها مجرد خلافات في وجهات النظر.
فمن بين التباينات التي رصدناها مثلا، أنه بعد وفاة الملك عبدالله بدا تباين بين مصر والمملكة في طريقة التعاطى مع جماعة الإخوان المسلمين، فبينما كانت القاهرة ترى -ولا تزال- الأولوية في المواجهة مع التنظيمات المتشددة وفى القلب منها الجماعة الإرهابية، كانت السعودية تؤمن – وربما لا تزال – بتأجيل المواجهة، وبأن الوقوف أمام الخطر الإيرانى هم الأهم الآن، خاصة بعد توقيع الاتفاق النووى.
كانت السعودية تنطلق في فكرتها الأساسية من تجربتها السابقة حينما قدمت المواجهة مع الجماعات الإسلامية على الوقوف ضد إيران، ففوجئت بسيطرة "الملالى" على القرار في 3 عواصم عربية، هي: سوريا، والعراق، ولبنان، فضلًا عن دورها الواسع في اليمن عبر جماعة "أنصار الله" المعروفة بـ "الحوثيين".
قامت إستراتيجية المملكة السعودية الجديدة في المواجهة مع إيران على حشد حركات الإسلام السنى أمام "الخطر الشيعى" الذي توقعت أن يزداد توحشًا بعد توقيع الاتفاق النووى، المصحوب بالإفراج عن أموال طهران المجمدة في العواصم الغربية، وفك العقوبات بشكل تدريجى مما يوفر مصادر تمويل واسعة ترى الرياض أن منافستها ستستغلها في توسيع نفوذها الإقليمى بشكل كبير.
بشكل أوضح، فإن السعودية كانت تريد قوتين سياسيتين في المنطقة، أولاهما سنية بقيادتها، وفى القلب منها حركات الإسلام السياسي السنى وعلى رأسها "الإخوان المسلمين"، وأخرى شيعية تقودها إيران وأذرعها في لبنان، وسوريا، والعراق.
في هذه اللحظة باتت القيادة الجديدة في السعودية أقرب إلى استغلال "الإخوان المسلمين" في المواجهة مع إيران، وتراجعت عن خط المواجهة مع الجماعة الذي تبدى في أقصى صوره بإدراجها على "لائحة الإرهاب" بقرار من العاهل الراحل عبدالله.
من هذه النقطة يمكن تفسير ما طرأ على العلاقات بين الرياض وحركة حماس من إذابة للجليد.
فتحت الرياض -لأول مرة منذ ما يزيد على الأربع سنوات- خط اتصال مع "حماس"، حيث بدت المملكة راغبة في استقطاب الحركة إليها لـ"كسب نقطة" في مواجهة إيران، التي كانت حتى وقت قريب الممول الأول والأكبر للحركة، قبل أن تباعد الأحداث في سوريا بينهما.
فتحت هذه الاتصالات التي بدأت بعد تولى الملك سلمان الحكم مباشرة الباب أمام زيارة "مشعل" للرياض وفق ما كشفت عنه مصادر بالحركة وكتاب على صلة بها، بينهم فهمى هويدى الذي صرح بأنه سمع من رئيس المكتب السياسي أن "الجليد بين حماس والرياض تمت إذابته بعد مرور أربع سنوات من تجميد للعلاقات"، كاشفًا عن أن "هناك اتصالات جرت"، وأن "مشعل نفسه تحدث مع الملك سلمان".
ما الذي قالته القاهرة في هذا السياق؟
طبقًا لمصادر لها ثقل وثقة، وأعرف أنها قريبة مما يجرى في كواليس صناعة القرار السياسي، فإن القاهرة كانت ترى أن الرياض راغبة في لعب دور مؤثر في القضية الفلسطينية عبر الضغط لإتمام المصالحة بين "فتح" و"حماس"، ومن ثم تقديم تصور لاستئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية.
كانت السعودية قد رعت في 2007 "اتفاق مكة المكرمة" للمصالحة بين "فتح" و"حماس"، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، إلا أن الاتفاق انهار في السنة نفسها بعد سيطرة "حماس" على قطاع غزة.
وفقًا لرواية المصادر، فإن السعودية تحاول من الدخول في المشهد الفلسطينى بقوة أن يكون بيدها كارت جديد تناور وتفاوض حوله بعد الاتفاق النووى الإيرانى.
أمام الموقف السعودى الجديد بالنسبة للقضية الفلسطينية، تقول مصادر القاهرة: "إن القضية الفلسطينية شأن مصرى عبر التاريخ، وأن أي اتفاق أو مشروع لن يمر إلا وعليه ختم الموافقة المصرية".
معلومات التقارب بين السعودية و"حماس" كانت معروفة لدى القيادة السياسية في مصر، بل تحدث "الإخوة في الرياض" بشكل واضح عن مساعيهم لـ"تقريب وجهات النظر بين القاهرة وحماس".
ووفقا لتقارير رفيعة المستوى، فإن وزير الخارجية السعودى، عادل الجبير، خلال زيارة للقاهرة، طرح على الرئيس عبدالفتاح السيسى، فكرة أن يلتقى مسئولون مصريون مع قادة من حركة "حماس" في الرياض، غير أن الموقف المصرى جاء رافضًا لـ"الطرح السعودى" وقتها.
هنا من الضرورى أن أعود مرة أخرى إلى زيارة "مشعل" للسعودية، ففى الكواليس تناثرت معلومات حول الظروف التي سبقت الزيارة، إذ تشير مصادر إلى لقاءات سرية عقدت بين ولى العهد، الأمير محمد بن نايف، وولى ولى العهد، الأمير محمد بن سلمان، ومسئولين في الاستخبارات السعودية ورئيس المكتب السياسي لـ"حماس".
كانت الرغبة في فك أي ارتباط بين الحركة وإيران هي الهدف الرئيسى لهذه اللقاءات، ومع تعهدات "حماس" للسعودية بالتراجع عن التعاون مع طهران قدمت المملكة دعمًا ماديًا وصل إلى 10 ملايين دولار إلى الحركة، لتعويضها عن توقف الدعم القادم من طهران.
نقطة أخرى كانت فاصلة في "إذابة الجليد" بين "حماس" والسعودية تمثلت في "وساطة" قام بها خالد مشعل بين الرياض وحزب التجمع اليمنى للإصلاح، المحسوب على جماعة الإخوان المسلمين.
في التفاصيل أن المملكة السعودية باتت تخشى من تدهور الأوضاع في اليمن، ومن هنا أجرى العاهل السعودى، وولى العهد، وولى ولى العهد، اتصالات مكثفة بـ"مشعل" طلبوا خلالها وساطته بين الرياض وحزب الإصلاح، لِما له من علاقات وثيقة جدًا معهم.
وبحسب معلومات، فإن "مشعل" وصل السعودية في الأول من يونيو الماضى، قادمًا من قطر على متن طائرة قطرية خاصة يرافقه فيها من الحركة عزت الرشق، ومحمد خاطر، وكان على نفس الطائرة وفد من حزب "الإصلاح"، وآخر من المخابرات القطرية.
يقتحمنا السؤال من جديد، وماذا عن القاهرة في هذا السياق؟ ما الذي كانت تراه؟ الإجابة التي استندت فيها إلى مصادر مهمة، تقول إن مصر من جانبها أبلغت كل الوسطاء أنها لا يمكن أن تكون طرفًا في أي مشروع يكون "الإخوان المسلمون" طرفًا فيه وحتى هذه اللحظة، كانت مصر رافضة تماما لأى تقارب مع "حماس"، بل إنها أبلغت الوسطاء بأن فتح هذا الأمر أو الاقتراب منه غير مقبول على الإطلاق (بعد ذلك حدث التقارب الذي كانت له أسبابه، وسوف نأتى على أسباب ذلك في سياقه الخاص من هذه السلسلة).
لكنى لا بد أن أسجل هنا أن القاهرة كان لها موقف واضح ومحدد، فهى لم تغلق الباب كلية، فقد وضعت شروطًا مسبقة ومسودة طلبات على "حماس" أن تنفذ كل بنودها أولًا، وفى مقدمتها تسليم من تورطوا في عمليات قتل جنودنا، ثم تنظر القاهرة بعد ذلك في أمر الوساطات.
رأت مصر في التقارب بين السعودية و"حماس" مدخلًا للضغط عليها من أجل تخفيف الحصار على قطاع غزة، فالمملكة تحاول جذب الحركة في صفها بسوريا، واتخاذها وسيلة اتصال بـ"إخوان اليمن"، وفى المقابل تستغل "حماس" المملكة في الضغط على النظام المصرى لـ"تخفيف الحصار"، ووقف الحملة الإعلامية ضدها.
الخلاف لم يكن على أرضية حماس، كان هناك خلاف تسبب فيه زائر إلى القاهرة، فعندما التقى رؤساء تحرير الصحف المصرية مع رئيس الوزراء العراقى، حيدر العبادى أثناء زيارته إلى القاهرة، صرح بأن "المباحثات المصرية العراقية بحثت تشجيع النظام السورى على التعايش مع المعارضة السلمية لإيجاد حالة جديدة من التعايش وإنشاء إدارة انتقالية مشتركة في المناطق التي يتم تحريرها من قبضة تنظيم داعش".
أثارت تصريحات "العبادى" حول "اتفاق مصرى عراقى لحل الأزمة السورية، يتضمن تعايش النظام مع المعارضة" جدلًا كبيرًا سمع دويه في الرياض، وفتحت الباب أمام الحديث عن الخلاف المصرى السعودى حول حل الأزمة المندلعة في سوريا منذ 4 أعوام.
وجهة النظر المصرية كانت تقوم على "حل سياسي" يتضمن بقاء الدولة السورية والجيش السورى ومحاربة الإرهاب هناك دون موقف مسبق من الرئيس بشار الأسد، بل ترى القاهرة دورًا انتقاليًا له.
الرياض من جانبها وضعت خطًا أحمر تجاه الأزمة في سوريا يتمثل في ضرورة إقصاء "الأسد" وفق "حل عسكري"، فعملت على مشروع لتدريب المعارضة السعودية الموصوفة بـ"المعتدلة".
وتندفع الرياض تجاه هذا المشروع من أنقرة والدوحة لدرجة وصلت إلى توحيد جماعات معارضة بعضها تابع لتنظيم القاعدة مثل جبهة النصرة، بينما القاهرة تؤمن بـ"حل سياسي" لا يستبعد "الأسد".
ومع التوجه الجديد بدت السعودية أكثر انفتاحًا على "الإخوان المسلمين"، فاضطرت مصر لتوصيل رسائل إلى القيادة في المملكة بأن التحالف مع الجماعة خطر على الأمن القومى العربى، وعلى أمن مصر خاصة.
ومن بين أبرز المشاهد التي أظهرت ملامح الخلاف المصرى السعودى حول الوضع في سوريا، كان رفض مصر بشكل قاطع حضور أي من ممثلى المعارضة السورية في القمة العربية الأخيرة، على عكس رغبة الرياض التي كانت تريد حضورًا للمعارضة.
وتقول مصادر: "إن مصر ترى أن سقوط بشار الأسد سيأتى بالإسلاميين على رأس السلطة، لا سيما المرتبطون بجماعة الإخوان المسلمين، فيما ترى الرياض أن مشكلة النظام المصرى مع الإخوان يجب ألا تبقى المحرك الرئيسى للقاهرة في كل الملفات الدولية، وتطالب باتخاذ ما وصفته بـ"مواقف سياسية أكثر مرونة".
وترى مصر أنه لا جدوى من السماح لجماعة الإخوان المسلمين بالاشتراك في تقويض نظام الدولة السورية بشكل كامل تحت ذريعة مواجهة إيران، فيما تعتقد الرياض بأن التهديد الإيرانى "وجودى"، وأن جميع القوى السنية بما في ذلك الإخوان المسلمون يجب أن يكون لها دور في إجهاض الخطر الإيرانى، وحتى هذه اللحظة لا توجد أي نقاط التقاء بين القاهرة والرياض تجاه الأزمة في سوريا، وتبدو السعودية أكثر رغبة في تدشين تحالف مع تركيا وقطر لإسقاط بشار الأسد، وهو الأمر الذي لا تؤيده مصر.
في اليمن أيضًا مثلت جماعة الإخوان المسلمين نقطة خلاف واسعة بين القاهرة والرياض، فرغم الدور السعودى السابق في مناهضة حزب الإصلاح، الذراع السياسية للجماعة، إلا أن المملكة فتحت خطوط اتصال مع الحزب بعد تطور عمليات التحالف العربى ضد "الحوثيين" وقوات الرئيس المخلوع على عبدالله صالح.
أصرت المملكة العربية السعودية على إشراك حزب "التجمع اليمنى للإصلاح" في أي ائتلاف حكومى يتم التوصل إلى الاتفاق عليه عقب الانتهاء من العمليات العسكرية ضد الحوثيين في اليمن، وهو ما تحذر منه القاهرة، بل اعتبرته أمرًا ستكون له انعكاسات وتأثير مباشر على الأمن القومى المصرى، وأمن دول الخليج.
بدت السعودية مستاءة من الاتصالات المصرية بأطراف الأزمة اليمنية، بما فيها أطراف محسوبة على الرئيس المخلوع على عبد الله صالح و"الحوثيين"، كان آخرها لقاء مسئولين في المخابرات مع أبو بكر القربى مبعوث "صالح" إلى القاهرة للبحث في مخرج للأزمة.
تحركت مصر في هذا الملف بالتوافق مع الإمارات العربية المتحدة، التي تتمسك هي الأخرى بعدم دعم أي دور لـ"الإخوان" في الدول العربية، والتضييق عليهم، وعدم مشاركتهم في الحكم في أيٍّ من البلاد العربية.
ارتباطًا بموقف السعودية من الأوضاع في سوريا واليمن والمواجهة مع إيران، سعت المملكة بعد تولى الملك سلمان الحكم إلى تقوية علاقتها مع تركيا وقطر، من أجل إسقاط بشار الأسد.
لم تخف مصادر القاهرة القلق المصرى من الانفتاح السعودى اللافت على المحور التركى القطرى، وتزايد وتيرة التقارب بين الملك سلمان، والرئيس التركى رجب طيب أردوغان، العدو الأول للقيادة السياسية في مصر.
وتذكر مصادر دبلوماسية عربية، أن المملكة العربية السعودية سعت إلى تحالف جديد مع تركيا لمواجهة الإمبراطورية الإيرانية المتنامية، وهو الأمر الذي يقلل من زخم العلاقات بين القاهرة والرياض، إذ أصبح الموقف السعودى أكثر قربًا من تركيا في ملفات هي الأهم على الأجندة الإقليمية.
وبتعبير أحد المصادر الذي قال لى مبكرا جدا، فإن "السعودية ترقب بنوع من الحذر" تواصل مصر مع روسيا، إذ ترى أن التواصل بين الجانبين وراء الموقف المصرى الرافض لـ"إسقاط الأسد"، وتتخوف من أن يستتبع هذا التقارب وجود علاقات بين القاهرة وطهران.
وبحسب معلومات جمعتها مبكرا أيضا، فإن مصر سعت لتأسيس علاقة جديدة مع طهران دون قفز على الخلافات، لكنها لم تنقل الحوارات إلى العلن حرصًا على العلاقات مع الخليج.
المملكة من جانبها ترى أن انفتاح القاهرة الزائد على موسكو "لن يأتى بالخير" في علاقة البلدين على المدى البعيد، بينما مصر تريد أي دعم دولى في ظل مواجهتها الشاملة مع الإخوان المسلمين.
أما في ليبيا، ففيما كانت مصر ترى ولا تزال ترى وجوب توجيه ضربات عسكرية للإسلاميين على غرار "عاصفة الحزم"، فإن السعودية ترفض بشدة هذا التوجه.
■ ■ ■
ما الذي جعلنى أسهب بين أيديكم في الحديث عن ملامح الخلاف الذي كان بين القاهرة والرياض؟
السبب في ذلك أننى أريد أن أضع العلاقات بين السعودية ومصر - وهى العلاقات التي دخلت مرحلة جديدة بعد زيارة الملك سلمان بن عبد العزيز إلى القاهرة في أبريل الماضى – في إطارها الصحيح، فحتى نفهم ما وصلت إليه هذه العلاقات من تحالف كامل، كان لا بد أن نفهم كيف تطورت.