على الساحة منذ سنوات، حرب وإعلام فقط، ماتت السياسة، على الساحة عنف يقولون إنه حوار وتفكير، وهو فى جوهره إما مزايدة أو إقصاء أو تكفير، على الساحة فقط لعلعة الرصاص وخشونة الحناجر التى بلا عقل، فكم من مرة أحجم كاتب عن إبداء وجهة نظره تحسبًا لهجوم اللجان وتخوفًا من جاهل سليط اللسان، المناخ بائس ويزداد بؤسًا كلما اندفعت العجلة للأمام، وكأن الآلة الجهنمية التى تحكم هذه المنطقة من العالم ترفض التوقف إلا بعد إنفاذ كامل طموحها فى الخراب.
جاءت حلب يوم الجمعة الماضى كنموذج تتجلى فيه ثنائية الحرب والإعلام ولا ثالث لهما، صور وفيديوهات وصرخات من جانب وعلى الجانب الآخر مدافع ونيران ورصاص حى، المحصلة هى أن الحرب والإعلام أصابا أهدافهما بالقتل والخراب، الحرب تدك الأرض والأرواح والإعلام يزلزل اليقين حتى إن أدق المتابعين يقف مترددًا دون أن يعرف بالضبط ماذا يحدث، المتكلمون من فنادق تركيا فى غاية التوتر، ورسائلهم للشحن كانت هذه المرة كثيفة.
ساعات عصيبة عاشها المتابع من خارج سوريا حتى اكتشف مجتهدون كمية الفبركة فى الصور التى نشرها أصحاب البروفايل الأحمر الذين هم وليس بالمصادفة هم أنفسهم أصحاب البروفايل الأصفر بأصابعه الأربعة، فى الساعات العصيبة غاب عنا أن حلب أصلًا محتلة منذ سنوات، وأن الدواعش ومن لف لفهم قد عاثوا فيها فسادًا ابتداء من جز الرؤوس وصولًا إلى سوق السبايا، إذن ما الجديد الذى انقلبت بسببه الدنيا، مؤكد هناك جديد.. مفاوضات جنيف انتهى أمرها بعد تعنت وفد المعارضة، وماذا أيضًا.. الجديد أيضًا هو أن حلب من أقرب المدن إلى تركيا وأن تحررها يعنى الانهيار التام لأردوغان ووقتها سيتخلص منه الاتحاد الأوروبى كورقة مهملة مصيرها القمامة.
بارك الله على الحرب التى كشفت لنا خطورة الإعلام القاتل، وبارك لنا اكتشافات جديدة عن رموز كانت ذات يوم ملء السمع والبصر، فالمعروف هو أن المواطن العادى قد تختلط عليه الأمور ولكن أن يشتبك الأخ محمد البرادعى مع قصف حلب مغردًا بالقول عبر «تويتر»: «عندما نحترم شعوبنا، عندما نفهم معنى الإنسانية، عندما نأخذ بزمام مقدراتنا، عندما نخرج من غيبوبة المؤامرة سيأخذنا العالم بجدّية»، وهنا مربط الفرس البرادعى يحاول أن يكرس فكرة أن الغرب برىء من تلك الجرائم التى تدور بالمنطقة على مدار الساعة، وأنه لا مؤامرة تتم علنًا ضد المنطقة، يحاول كخادم مطيع أن يرمى بالأسباب على واقعنا البائس، نعم لدينا مشاكل ولكن لدى البرادعى والغرب جرائم، نعم لدينا مشاكل ولكننا نرفض بكرامة أن تتهمنا بأننا معدومو الإنسانية، ذلك العراب الذى صمت عن اعتصام رابعة المسلح ها هو يرجع من جديد ليكون ستارة دخان للدواعش ليختبئوا خلفها، يصمت عن جز الرؤوس ويعترض على دولة تحاول تحرير أراضيها.
شكرًا للحرب والإعلام باعتبارهما المنصتين الأبرز على الساحة منذ سنوات فقد تحقق بسببهما فرز على مستوى عال من الدقة على مستوى النخب والزعماء والأحزاب، تكشفت حقائق وصارت المواجهات علنية، ومن المؤكد بعد أن تحط الحرب أوزارها سنشهد أحزابًا غير الأحزاب، وسنرى أساليب جديدة ومبتكرة فى التواصل اليومى مع الناس، وقتها سيذوب ويتلاشى كل من فقد عقله ووقف متفرجًا أثناء الحرب أو شامتًا فى الجيوش وهى تواجه مغول العصر التكفيريين.
سنوات صادمة وصعبة والاختيارات محدودة؛ إما المواجهة بصدق ضد تجار الدين الذين هم فى الأصل أدوات المؤامرة، أو تنضم معهم ولن يخدعنى رداؤك اليسارى أو الليبرالى، الأنظمة ستتغير مرغمة طالما امتلكت وعيك وعرفت موضع قدمك على خارطة النضال.