أعترف وبكل أريحية أننى ومنذ سنوات، لا أعرف عددها، لم أجد نفسى مشدودا لقارئ ما.. أحيانا وأنا فى الصعيد أؤدى واجبا للعزاء يلفت نظرى أحدهم فى أدائه، لكننى سرعان ما أجده مقلدا لأحدهم.. ولسنوات كانت تطاردنى فى المنزل وخارجه أصوات غير مصرية.. كنت أخجل أن أقول لأصدقائى إننى لا أحب الاستماع إليها.. جميعها أصوات قادمة من الخليج ولا خصوصية لها من وجهة نظرى المتواضعة.. ربما تكون أصواتا عظيمة.. لكنها لا تأخذنى لجلال القرآن وعذوبته.. وكنت كلما فوجئت بأحدهم أهرب إلى صوت مصطفى إسماعيل.. أو عبدالباسط عبدالصمد.. وكأننى ألجأ لهم -أغيثونى- وإذا ما شعرت بألم فى صدرى.. كنت أهرب إلى صوت الشيخ محمد عمران قارئا ومبتهلاً.
لم أجادل أصدقائى فى حمية صوت محمد عمران.. فهو صوت نغمى بامتياز.. لا يضاهيه أحد -من وجهة نظرى برضه- فى الاتصال بأريحية بين سموات الموسيقى الخفية التى تتسرسب بين آيات القرآن الكريم ومعانيه وهندسة صوتياته.. وأعتقد أن الشيخ عمران من القلائل الذين استطاعوا فك أسرار هذه الهندسة.
هذا الأسبوع وجدتنى مأخوذا لصوت شاب من أبناء هذه المدرسة المصرية الخالصة فى التلاوة.. لا يقلد أحدا ولا يشبه أحدا.. واندهشت كثيرا وأنا أبحث خلف فيديوهاته على «اليوتيوب»، وأنا أشاهد تلك الملايين التى تتابعه.. كيف لى وأنا المتيم بالأصوات الجميلة لا يصلنى خبره.
هل هو مصرى؟.. نعم.. هل هو معتمد لدى الإذاعة والتليفزيون؟ نعم.. كيف إذن لا نعرفه؟.. أو بالأحرى لا أعرفه؟!
صوت عذب رائق.. ينزلق للأسفل حتى آخر حدود القرار، وكأنه سكين فى الزبد.. ويعلو متهدجا مختالا حتى آخر نوتة فى «جواب الجواب»، والمستمعون من حفل إلى آخر كأنهم سكارى فى حضرة ذلك الشيخ.
الأغرب أننى وجدته قارئا فى أماكن متعددة من العالم.. إنجلترا.. الكويت.. السعودية.. إيران، والأغرب أن نفس المشاعر التى راودتنى وأنا أستمع إليه وهو «يتلاعب بمقدرات مقام السيكا» فى إحدى قراءاته لسورة الحجرات.. هى نفسها التى ظهرت على ملامح مستمع إفريقى لم يتمالك دموعه وهى تسقط محبة وخشية وخشوعا بعدما أشبعها ذلك الصوت العذب مرواحا ومجيئا بين جنات آياته المحكمات.
وأدهشتنى الملاحظة.. فهذا الرجل الإفريقى حتما تعودت أذناه على سلم خماسى.. لا وجود فيه لأرباع التون.. يعنى المفروض أن مقام السيكا هذا يكون كالنشاز بالنسبة له.. لكنه تمايل طربا وهو يردد استحسانا.. يا الله.
نعم يا الله.. كيف تجمع موسيقى القرآن بين ذلك الإفريقى وهؤلاء الذين جاءوا من آسيا، وذلك الرجل الذى ظنه أحد هواة «اليوتيوب» مسطولا، لأنه فقد صوابه فى العزاء، وخرج ليقبل الشيخ القارئ بعد إحدى نقلاته الفاجرة؟!
الصوت الذى أحدثكم عنه.. صاحبه اسمه محمود الشحات أنور، وحينما سألت عنه علمت أنه شاب مصرى من أسرة عرفت بحلاوة أصوات أهلها فى قراءة القرآن.. والده كان معروفا بلقب «أمير النغم».. توفى منذ ثمانى سنوات فقط.. بعد أن حقق انتشارا كبيرا فى عالم التلاوة.. بل إن البعض يرى أنه صاحب مدرسة خاصة.. الأسرة جميعها أصولها تعود إلى «كفر الوزير» إحدى قرى مدينة ميت غمر بالدقهلية.. ذاع صيت الشيخ الوالد بعد انتشار الكاسيت فى السبعينيات.. جاء للقاهرة للاعتماد فى الإذاعة.. ولم يحصل على الإجازة من أول مرة، لكنه درس الموسيقى فى المعهد لعامين، ثم دخل الاختبار مجددا، لينجح بامتياز فى عام ١٩٧٩.
إنه الشيخ الشحات أنور.. الذى أنجب لنا الشيخ محمود.. الذى أعتبره - وأنا مسئول عن اعتقادى - فتحا جديدا فى عالم التلاوة، وهذا ما يجعلنى أسأل عن وزارة الأوقاف والأزهر ووزارة الشباب والإذاعة وأهل ماسبيرو الذين أهملوا جميعا فى حق قراء مصر، البلد الذى أنجب الطبلاوى والمنشاوى ومحمد رفعت وعشرات غيرهم.
أين كل هؤلاء من الشيخ محمود الشحات؟.. لماذا لا نقدمه للناس.. ونحافظ عليه؟ فأمثاله ندرة، حتى وإن كنت أظن أن بجوار كل جذع نخلة فى الريف والصعيد مقرئا فذا.. لكن المميزين الموهوبين قلة.. لماذا لا يذهب الصديق محمد العمرى ليحصل على تسجيلات هذا الشيخ النابغة.. لتحصل «صوت القاهرة» مثلما كان يحدث فى يوم من الأيام على حقوق طبع تسجيلاته.
يا سادة.. هذا واحد من القراء الكبار فى دولة التلاوة.. فاسمعوه.. واتعظوا، فبأمثاله فقط عاشت وتعيش وستعيش مصر التى نريدها.