الأحد 24 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

"المنسي" في عيد العمال.. فكري الخولي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«حضرة رئيس الحكومة.. نحن الموقعين أدناه عمال الغزل والنسيج بالمحلة الكبرى، بنك مصر: نتشرف بتقديم شكوانا هذه لتكون على علم بما يحدث لنا. أولا: من يوم أن حضرنا من قرانا واشتغلنا والمكن يقتل منا كل يوم عاملا، وآخرون كسرت أرجلهم أو قطعت أيديهم أو فقئت عيونهم، والمستشفى ملىء بكل هؤلاء، ولم يحقق أحد فى تلك الحوادث وهم يدفنون دون أن يعرف أحد مكانهم. ثانيا: المرض ينتشر كالوباء فى كل البيوت وخاصة مرض السل من ازدحام السكن وسوء التغذية، وقد مات الكثيرون دون أن تدفع لهم دية. ثالثا: نعمل ١٢ ساعة دون راحة ونقف على المكن مبدلين أرجلنا كالحمير دون رحمة، وللعلم قلنا للنيابة ومع هذا لم تحقق.. نرجو النظر فى شكوانا هذه جعلكم الله عونا للمساكين».
ولا يعير أحد الانتباه إلى أول شكوى مكتوبة فى تاريخ الطبقة العاملة المصرية.
وتحت ضغط القهر والاستغلال، ومع فقدان أدوات النضال الجماعى، قام أحد العمال بقتل رئيسه الذى انهال ضربا على عامل آخر.. «وظن البعض منهم أن الظلم قد مات.. ولم يعرفوا أنه واحد من مئات الرؤساء.. وسوف تعين الشركة غيره.. وسوف يقوم بما قام به.. ودى خطة الجميع ينفذها.. مهما مات واحد، فلن يموت الظلم ما دام كلهم ظالمين».
تلك كانت بعضا من سطور كتبها فكرى الخولى (١٩١٧-٢٠٠٠) أحد أهم قادة الحركة العمالية والمناضلين النقابيين. 
كتب «الرحلة» خلال وجوده فى معتقل الواحات عام ١٩٦٢ على ورق البفرة وعلب الكبريت ووريقات علب السجائر، وتم تهريبها من السجن لتُجمع فى كتاب من ثلاثة أجزاء ويصدر الجزء الأول منها عام ١٩٨٧.
قال الكاتب الصحفى الكبير صلاح حافظ فى تقديمه لرحلة فكرى الخولى:
لم يسبق فى تاريخ الرواية العربية عمل من هذا الطراز فقد ألفنا فى عالم الرواية أن نرى الفلاح بعين ابن عمه الذى تعلم فى المدينة واحترف الكتابة، وأن نرى العامل بعين «المثقف الثورى» الذى انحاز لقضيته، بعد أن عرف أنه إنسان مثله. لكننا أبدًا لم نقرأ رواية بقلم فلاح أو بقلم عامل، يصور حياته كما يراها بعينيه.. ويتيح لنا أن نراه كما يرى هو نفسه. وهذا الذى لم نقرأه أبدًا هو ما ينفرد به هذا العمل الذى لم يسبق له مثيل فى الأدب العربى. فهنا لا يكتب «محمد حسين هيكل باشا» عن زينب الفلاحة الجميلة وقريتها الجاهلة التى تضطهد عواطف العذارى الجميلات، وهنا لا يكتب وكيل النيابة توفيق الحكيم عن لغز «ريم» التى يختلج رمش عينها فينبسط ظله على فدان.
وهنا لا يصف حياة العمال نجيب محفوظ من مقعد القهوة، ولا يسرد الحكايات فى قاع المدينة د. يوسف إدريس مستعينًا بالسماعة وكشف الأشعة قبل أن يتولى كشف الحالة. هنا يتولى الفلاح جميع هذه المهام.
هنا الفلاح يروى قصته بلسانه، والعامل يسجل سيرته بقلمه ولا يستعين «بخبراء أجانب» من أساتذة القلم المتطوعين للكلام باسمه، وفى اعتقادى أنه سيمضى وقت طويل قبل أن يظهر عمل أدبى يشبه عملنا هذا، لأن الأدب عندنا حرفة للخاصة والقلم له أهله، ولا يتصور الناشر العربى أن ينشر «يوميات ساعى بريد» إذا كان كاتبها ساعى بريد بالفعل.
فالسيرة الذاتية للإنسان العادى لا تعتبر مادة صالحة للنشر ولا تضاف إلى رصيد الأدب ما لم يكن صاحبها من أهل القلم المتعمدين. إن هذا العمل هو دعوة إلى كل عربى لكى يسجل تجربته بلا حيرة ولا تردد ولا تكلف.. لا لصالح القارئ وحده، وإنما لصالح الأديب المحترف. فما يرويه هذا العمل «الرحلة» يغطى مرحلة مهمة تمامًا فى تاريخ مصر المعاصر. وهى المرحلة التى نشأت فيها الصناعة المصرية الحديثة أيام طلعت حرب وشركات المحلة. ففى مختلف بلدان العالم التى سبقتنا إلى الثورة الصناعية، رسم وروى عن الأدب صورة المجتمع الذى عاصر هذه الثورة، وسجل الآلام والآثام والضحايا الذين قامت على أكتافهم الصناعة، أما الآلام والآثام المصرية والضحايا المصرية التى صاحبت عصر النهضة الصناعية المصرية..
فقد تجاهلها الأدب المصرى تمامًا. وكان طبيعيًا أن يتجاهلها، لأن الصناعة فى مصر نشأت فى صراع مع صناعة الاستعمار الأجنبى. فكان طابعها الوطنى يمنع الرأى العام المصرى، والعمال المصريين من التشهير بآثامها. والآن وقد زال هذا الاعتبار، فإن تاريخ نشأة الصناعة المصرية الحديثة والآلام التى صاحبتها والضحايا الذين سقطوا فى سبيل أن تدور عجلاتها أصبح ممكنًا، وواجبًا أن يعرفه الجميع. وهذا العمل يؤدى هذا الواجب.
ويحكى عمنا فكرى الخولى فى رحلته : «.. حنستنى كده لإمتي؟! حنستنى عشرين وتلاتين فى حجرة؟! حنستنى فريسة للمرض؟! الوباء انتشر فى المحلة.. انتشر فيها كلها.. مفيش بيت إلا وفيه سل من كترة المتكدسين فى السكن.. قولوا!، اتكلم انت وهو! بعد ما كان العامل واقف على مكنتين وقفوه على أربعة!!، كل واحد عارف بيجيب كام بنط؟!، كل واحد عارف بيجيب كام متر من الأقمشة فى اليوم؟!، لو الواحد منكم عرف ما كانش سكت لغاية دلوقت.. حسبة بسيطة لو عملناها حنلاقى العامل الواقف على أربع ماكينات بيجيب فى الاتناشر ساعة حوالى مية وعشرين متر.. بياخد عليهم كام؟!.. بياخد خمسة قروش صاغ!! ثمن مترين منهم بيشتريهم، والباقى مية وتمنتاشر متر.. كل ده داخل فى جيوبهم.. جيوبهم همّه!! ويا ريت حتى بيسيبونا فى حالنا.. كل يوم الغرامات بتزيد!! اللى بيعطوه لنا باليمين بياخدوه منا بالشمال.. ما يهمهمش حاجة. ناكل.. ما ناكلش.. نتعرى.. القمل يعشش فى هدومنا.. عيالنا تموت ما نلاقيش كفن.. كل ده ما يهمهمش!! وفيه ناس بيقولوا لنا اصبروا! نصبر لحد إمتى؟!!».
ويعلق الكاتب يوسف قمر فى دراسته المنشورة فى مجلة أوراق اشتراكية، ديسمبر ٢٠٠٧، عن رحلة عمنا فكرى: لم يكن الإضراب الكبير فى المحلة من أجل ٨ ساعات عمل سوى إعلان حقيقى عن تطور وعى ودرجة كفاحية العمال ودخولهم مرحلة جديدة من المواجهة، ليس فقط مع إدارة الشركة وقوات البوليس، ولكن وهو الأهم مع حزب الوفد الذى ادعى على مدار الحكومات التى قام بتشكيلها نصرته للفقراء وللحريات، وذلك عندما تطور الأمر بتدخل حكومة الوفد فى صف الشركة عندما قامت بإنشاء نقابة بديلة لتلك التى شكلها العمال بهدف ضرب حركتهم.
ويقول عمنا فكرى: «كان العمال فى اتحادهم العام أكثر إيجابية فى ثورة ١٩١٩ التى قادها سعد زغلول.. وبعد أن فرض الشعب إرادته، وتكونت الحكومة برئاسة سعد، وظن العمال أنهم انتصروا على الاستعمار ولم يبق إلا أن يجنوا ثمار كفاحهم.. تقدموا بمطالب رفضها سعد، فما كان أمام العمال إلا أن يعتصموا بالمصانع.. ولم تتوقف عجلة الإنتاج لحظة.. واستمر الاعتصام أيامًا.. وبدلًا من أن تستجيب الحكومة لمطالبهم اقتحمت المصانع بالقوة، وقبضوا على قادة العمال، وأضرب قادة العمال عن الطعام فى السجن إلا أن سعد زغلول تركهم إلى أن ماتوا.. وها هو النحاس يفعل بنا ما فعله سعد زغلول ويتركنا نموت وتموت معنا حركة العمال».
يتوقف الجزء الثالث من الرحلة عند بداية الأربعينات التى شهدت أهم الكفاحات فى تاريخ الطبقة العاملة المصرية، ولا تجد الطبقة العاملة واحدا من أبنائها يستكمل رحلة عمنا فكرى فى الكتابة عن تدجين التنظيم النقابى فى العهد الناصرى أو تخريب وعى العمال فى عهد انفتاح أنور السادات أو تصارعهم إلى المعاش المبكر فى عهد تخريب الصناعة وبيع أصول الشعب المصرى فى عهد مبارك.
ومازال عمنا فكرى الخولى يقف شامخا رغم رحيله حتى لو نسيه الجميع.