فوجئنا بالبيان الصادر من وزارة الخارجية السودانية، الذى تم نشره، وتوزيعه عن طريق وكالة أنباء السودان، وتدعو فيه الأشقاء بجمهورية مصر العربية إلى الجلوس والتفاوض المباشر حول حلايب وشلاتين، إسوة بما تم مع الأشقاء فى المملكة العربية السعودية، وأن بديل التفاوض هو اللجوء للتحكيم الدولى امتثالاً للقوانين والمواثيق الدولية، باعتباره الفيصل فى مثل هذه الحالات، كما حدث فى إعادة طابا للسيادة المصرية. ويتردد بشكل قوى أن من قام بوضع هذا البيان جهاز الاستخبارات البريطانى «إم.آي.سكى» بالتنظيم الدولى لجماعة الإخوان المسلمين الإرهابية بغرض تأليب الرأى العام المصرى ضد قيادته الوطنية، من أجل إحداث انقسام فى الرأي، وإظهار هذه القيادة بأنها تفرط فى الأراضى المصرية إسوة بما قام به رئيس الجماعة الإرهابية المعزول محمد مرسي. ولا نستبعد ذلك، حيث إن السلطة الحاكمة فى السودان ما هى إلا أحد أفرع التنظيم الدولى لجماعة الإخوان المسلمين، وتأتمر بأوامره، وإحدى أدوات تنفيذ مخطط التفتيت والتقسيم للبلاد العربية، وتحويلها إلى دويلات صغيرة، وسياساتها الخاطئة كانت السبب فى انفصال جنوب السودان عن شماله، بسبب الجرائم التى ارتكبتها فى حق أبناء الجنوب، حيث قامت بتطبيق الحدود، وقطع الأيادي، والجلد بزعم تطبيق الشريعة الإسلامية، بالرغم من علمها أن غالبية أبناء الجنوب مسيحيون، الأمر الذى دفعهم إلى المطالبة بالانفصال، وساعدتهم على ذلك أمريكا، والاتحاد الأوروبي، وإسرائيل، كما أن هذه السلطة فقدت السيطرة على إقليمى كرفان، ودارفور. وهذا البيان ما هو إلا محاولة للاصطياد فى المياه العكرة، ولن ننسى دورها فى دعم إثيوبيا فى إقامة سد النهضة بقصد الإضرار بالشعب المصري، وحقه التاريخى فى مياه النيل. ومن المتوقع بروز العديد من المشاكل بين البلاد العربية بشأن ترسيم الحدود، وسيحاول أعداؤنا استغلال ذلك من أجل إثارة الفتن، والقلاقل، الأمر الذى يستوجب أن نحذر من هذا. فالشعوب العربية لم تصنع حدود دولها، وإنما كانت صنع الاستعمار القديم سواء الإنجليزى أو الفرنسى أو الإيطالى أو الإسباني، وآلت إليهم كما هى عقب الحصول على الاستقلال، وأصبحت بمثابة قنابل قابلة للانفجار فى صدورهم، وقتما يشاء أعداؤهم، واستغلالها فى إثارة الفتن، والقلاقل، والنزاعات، وبث الفرقة، والانقسام، وخير دليل نسوقه حينما قاموا بالوشاية للرئيس الراحل صدام حسين بأن الكويت تقوم بالاستيلاء على بتروله، وأن له حقوقا تاريخية على الكويت، وشجعوه على غزوها، وما أن تم حتى اتخذ ذريعة لاحتلال العراق، وتدمير جيشه، وإعدام صدام نفسه، وما زالت حتى الآن المنطقة تعانى من أثر هذا؟! ولعل جميعنا يتذكر أن فى بدايات القرن التاسع عشر بدأت المرحلة الاستعمارية من قبل الدول الأوروبية للمناطق العربية وسط تراجع واضح لسيطرة الدولة العثمانية، حيث استمر العراق، والشام، وبلاد الحجاز تحت الحكم العثماني، وكذلك ليبيا، وتونس، بينما وقعت الجزائر تحت الاستعمار الفرنسي، ونجح محمد على فى إقامة إمبراطورية مصر والسودان، وفى مطلع القرن العشرين، سقطت أغلبية المناطق العربية تحت الاستعمار الأجنبي، وتنوع ما بين الإنجليزي، والفرنسي، والإيطالي. حيث وقعت مصر والسودان، وشمال السودان، وجنوب اليمن، وسلطنة عمان، والإمارات العربية المتحدة، والكويت تحت الاحتلال البريطاني، بينما جنوب الصومال، وليبيا تحت الحكم الإيطالي، وتونس، والمغرب، والجزائر تحت الاحتلال الفرنسي، والأجزاء الشمالية من المغرب تحت الحكم الإسباني. وعقب انتهاء الحرب العالمية الأولي، وهزيمة الدولة العثمانية، ووصول الشيوعيين للسلطة فى روسيا، عقب الثورة البلشفية فى عام ١٩١٧ كشفوا وفضحوا اتفاق التفاهم السرى الذى تم بين الدبلوماسى فرانسو جورج بيكو والبريانى مارك سايكس، وبمصادقة من الإمبراطورية الروسية، وذلك فى نوفمبر ١٩١٥، ومايو عام ١٩١٦ «اتفاقية سايكس - بيكو»، وبموجب هذا الاتفاق حصلت فرنسا على الجزء الأكبر من الجناح الغربى «سوريا، ولبنان، ومنطقة الموصل فى العراق». أما بريطانيا فامتدت مناطق سيطرتها من طرف بلاد الشام الجنوبى لتضم بغداد، والبصرة، وجميع المناطق الواقعة بين الخليج العربي والمنطقة الفرنسية. أما فلسطين فوضعت تحت إدارة دولية بالتشاور بين بريطانيا، وفرنسا، وروسيا، ولكن تم الاتفاق على منح بريطانيا ميناءى حيفا وعكا، على أن يكون لفرنسا حق استخدام ميناء حيفا، ومنحت فرنسا لبريطانيا مقابل هذا حق استخدام الإسكندرية، وأعلن عن وعد بلفور فى عام ١٩٢٦، والكشف عن الرسالة التى أرسلها إرثر جيمى بلفور بتاريخ ٢ نوفمبر- وزارة الخارجية فى الثانى من نوفمبر ١٩١٧، الذى جاء فيها:
«عزيزى اللورد وتشيلد»:
يسرنى جدا أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته التصريح التالى الذى ينطوى على العطف على أمانى اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة، وأقرته. إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة مقام قومى فى فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم حاليًا أنه يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التى تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة فى فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسى الذى يتمتع به اليهود فى أى بلد آخر. وسأكون ممتنا إذا ما أحطتم الاتحاد الصهونى علما بهذا التصريح.. المخلص إرثر جيمى بلفور». وأنهت عصبة الأمم المتحدة الحماية البريطانية تمهيدا لإعلان قيام دولة إسرائيل على أراضى فلسطين العربية المغتصبة فى عام ١٩٤٨، لتصبح إسرائيل الحد الفاصل والمنيع ما بين الدول العربية فى الخليج العربى والشام والحجاز «بقارة آسيا»، والدول العربية الكائنة فى المغرب العربى وليبيا ومصر والسودان، ليس هذا فحسب بل بمثابة عصا غليظة لتأديب البلاد العربية، ولم ينكسر هذا الكيان إلا عقب الانتصار العظيم فى حرب أكتوبر ١٩٧٣. ولكن بالرغم من أن أغلبية البلاد العربية حصلت على استقلالها إلا أن الحدود والتقسيمات اللتين صنعهما الاستعمار سواء القديم أو الجديد استمرتا باقيتين كما هما، وكذلك ظهور قيادات عربية غالت فى الشعارات القومية التى رفعتها إلا أنها لم تتخذ موقفا عمليا وحقيقيا لربط الشعوب العربية ببعضها البعض، وحتى بعد قيام جامعة الدول العربية، والتوقيع على اتفاقية الوحدة الاقتصادية العربية فى عام ١٩٦٢ من خمس دول عربية، ثم انضمت إليها دول أخرى، ونصت هذه الاتفاقية على حرية انتقال الأشخاص ورءوس الأموال وحرية تبادل البضائع والمنتجات الوطنية والأجنبية، وحرية الإقامة، والعمل، والاستخدام، وممارسة النشاط الاقتصادي، وحرية النقل، والترانزيت، واستعمال وسائل النقل، والمرافق، والمطارات المدنية، وحقوق التملك، والإبحار، والإرث لرعايا الدول العربية لأعضاء فى اتفاقية الوحدة على قدم المساواة. وأعقب ذلك صدور قرار مجلس الوحدة الاقتصادية العربية ١٣/٨/١٩٦٤ بإنشاء السوق العربية المشتركة، وفى بداية انطلاقها تكونت من الأردن، والعرق، وسوريا، ومصر، والكويت ثم اتسعت عضويتها لتشمل باقى الدول العربية.وهذه الأشكال لم يحس بها المواطن العربي، وما زال الكفيل فى بعض الدول العربية، والرسوم الجمركية.. إلخ، بعكس الأشكال العالمية الأخرى الناجحة سواء منطقة التجارة الحرة الأوروبية أو السوق الأوروبية المشتركة أو السوق اللاتينية المشتركة والسوق المشتركة فى إفريقيا الشرقية أو السوق المشتركة لبلدان إفريقيا الغربية.. إلخ، وهذا يفسر سبب سرورنا وتفاؤلنا من خطوة الجسر البرى الذى يربط مصر بالسعودية، والموافقة على القوة العربية المشتركة، ونأمل فى العديد من الخطوات على طريق العمل العربى المشترك من خلال جامعة الدول العربية، لإزالة ما صنعه الاستعمار القديم والحديث، والقضاء على مخططاتهما، وهذا التحدى الحقيقى لكل المناضلين الحقيقيين، والشرفاء على مستوى الوطن العربي، أما المزايدون، وتجار الشعارات نقول لهم كفى تخريب وعبث بأمن الأوطان، وأن أعمالكم تصب لصالح وخدمة أعدائنا.