الأحد 22 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

"نوارة" صديقة الحياة وعصر الحالة الثورية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يتناول فيلم «نوارة» إخراج وتأليف هالة خليل، ليس حدث اندلاع ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ ذاته، أو مقدماته، وإنما انعكاساته على حياة الشعب المصرى خلال الشهور القليلة الأولى التى أعقبت الثورة، فهو يبدأ كما كتبت المخرجة على الشاشة فى (ربيع ٢٠١١) كما ينتهى فيه، ويعرض حالة الشعب بمجمل طبقاته، فقراءه وأثرياءه. لكن الفيلم فى ذات الوقت يقدم بقوة ووضوح رؤية ببلاغة جماليات سينمائية متميزة، ومقدمات بل وجذور هذه الثورة من خلال تلك الحياة والحالة فى أعقاب الثورة، إذ أن المظالم الفادحة والطبقية الصارخة، والمفاسد التى تشمل وتتخلل كل موضع فى المجتمع، والتى كانت هى جذور وأسباب اندلاع الثورة، تحاول البقاء والاستمرار فى الاستشراء. فيلم «نوارة» (١٢٢ دقيقة)، ينتمى إلى السينما السياسية بالمعنى الدقيق للاصطلاح، وهى السينما التى تتناول قضية سياسية مثارة فى الواقع الراهن، وينحاز الفيلم بوضوح وجلاء لثورة يناير، ويجسد العالمين المنفصلين كل الانفصال، المتناقضين إلى أبعد وأبشع مدى: الطبقات الشعبية العريضة المغبونة التى لا تحصل من الحياة على شيء، والطبقة الثرية المترفة والمحدودة، ولكن تملك كل شيء بلا حدود وبلا ضمير، ولا غرابة ألا تجد المخرجة المؤلفة إمكانية للعلاقة أو «التماس» ما بين العالمين، إلا من خلال علاقة السيد والخادم، فنرى «نوارة» (منة شلبي) تعمل خادمة بأحد قصور أولئك الأثرياء، وهو أمر توارثته عن أمها الراحلة التى كانت تعمل لدى نفس العائلة من علية القوم: الوزير السابق والنائب فى البرلمان (محمود حميدة)، وزوجته (شيرين رضا)، وابنتهما الشابة الصغيرة (رحمة حسن)، وابنهما الشاب (أحمد مجدي) الذى كان ممن سارعوا إلى مغادرة البلاد، ونراه يلح عليهم وهو فى لندن عبر الإنترنت أن يلحقوا به.
لحظة ذعر:
بنفس الموضوعية ورصانة التناول لدى المخرجة الكاتبة، تقدم هالة خليل النماذج البشرية وحياتها وعلاقاتها فى طبقة الأثرياء، وكما قدمتها فى حياة البسطاء والبؤساء، وحتى بالنسبة للأثرياء، فإنه يوجد رصد لمنطقهم ودوافعهم، من خلال لحظة ذعر، يكون فيها هاجس كبارهم وشاغلهم الأساسى، هو الهروب لخارج البلاد، حتى لا يظلون تحت تهديد إلقاء القبض عليهم أو مصادرة ممتلكاتهم.. وتضغط الزوجة والابن الذان سبقا إلى السفر، على الزوج والابنة، إلى أن يستجيبا من أجل أن يلحقا بمن هاجر وهرب إلى الخارج، طالبة من «نوارة» وحارس السيارات (أحمد راتب) أن يظلا بالقصر، ليظل هناك إيحاء بأن سكانه لم يبرحوا.. وتمضى أحداث الفيلم إلى نهايتها، بما تتطور إليه العلاقة بين «نوارة» وعريسها «على» (أمير صلاح الدين)، وهو يعمل فى إصلاح الأجهزة الكهربائية بدكان والده الذى يتعذب بمرضه الصعب، ويتعذبون من أجل إيجاد إمكانية أو مكان لعلاجه، وقد عقد قران «نوارة وعلى» منذ خمس سنوات لكن ظلا بلا إتمام للزواج لعجزهما عن تدبير مسكن. وجاءت قوة شرطة بالفعل لتتحفظ على القصر وتصادر الأموال، وتعقدت أكثر قصة «نوارة» وعريسها، رغم لحظات فرح قليلة مؤجلة، اختلساها سريعاً فى القصر، لكن ألقى القبض على نوارة بتهمة السرقة لإيجاد مبلغ من المال معها، كانت منحته لها السيدة.. وهكذا، باستمرار تفاقم المشكلات، وتعقيد أحوال هؤلاء الفقراء، وازدياد حياتهم قسوة، تريد المخرجة الكاتبة أن تؤكد أن الثورة لم تصل بعد إلى مرفأ، ولم تنجز شيئاً حقيقياً جاداً لجماهير الشعب.. لأنها ثورة لم تصل إلى السلطة، بل تظل قوى النفوذ والنظام القديم البالى تحكم سيطرتها على كل شيء، وتمسك بكل المقاليد، وتمسك بخناق ملايين غالبية المواطنين وقد عبرت المخرجة عن رؤيتها، بتدقيق وتعمق فكرى سياسى، وبحرفية متميزة وروح تجديد واقعية، وببلاغة سينمائية بصرية، وعبر شريط الصوت ومختلف الأدوات العملية السينمائية، مستعينة بإبداعات موهوبين، موجهة لها باقتدار، فى التصوير (زكى عارف)، والمونتاج (منى ربيع)، والديكور (هند حيدر)، والأزياء (ريم العدل)، والموسيقى (ليال وطفة).. فضلاً عن التمثيل الجميل، وفى المقدمة بطلة الفيلم منة شلبى بأداء فى صدارة ما قدمت من أدوار نضجاً ورهافة، واستيعاباً لجوهر الشخصية وتجسيدها بأدق الإيماءات والتعبيرات الداخلية والخارجية، وبروح فتاة رسمت شخصيتها كروح جميلة بريئة بقدر ما هى صلبة، تبتسم للحياة بإصرار ومثابرة وسط كل الأسى والبؤس، مع أداء متقن لأدوار لا تنسى لمحمود حميدة، وشيرين رضا، ورجاء حسين، والممثل الصاعد بحضوره وموهبته أمير صلاح الدين، والصاعدة شيماء بأداء تلقائى ملفت لدور الممرضة على قصره.. بل يوجد فى الفيلم كلب ضخم بالقصر، تطورت العلاقة بينه وبين «نوارة»، بدءاً من خوفها الشديد منه وانقضاضه عليها كلما رآها، إلى صداقة ومحبة آسرة بينهما، متصاعدة حتى اللحظة الأخيرة، ومن القليل النادر فى فيلم أن نجد كلباً كهذا يكاد يكون كأحد أبطاله، ومن الأندر فى السينما المصرية أن نجد علاقة صداقة ومحبة كهذه، التى بين نوارة والكلب. وكيف لا؟.. ونوارة رغم كل ظروفها والقسوة من كل اتجاه هى صديقة الحياة، وكائناتها، المحبة للحياة المصرة على التقدم.