الأربعاء 04 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

سيد قطب.. طفلٌ من القرية! (12)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

توقفنا في المقال السابق عند ذكر "طفل القرية: سيد قطب" لحكاية يوم السبت من كل أسبوع في أثناء فترة الفيضان (فيضان النيل الموسمي، وكان هذا أمرًا معروفًا ومعتادًا عند المصريين فيما قبل بناء السد العالي، والذي حجب مياه الفيضان خلف بحيرته المعرفة عند الفيضان، وأصبح من ساعتها الفيضان الذي كان يغشى أرض المحروسة في مصر كمثل الذي ذُكر هنا تاريخًا يروى وأثرى يحكى بعد واقع وعين!) في قريته، حيث قال: كان جمالها يوم السبت من كل أسبوع، ذلك أن الأفنديات (الأفندي: لقب كان يطلق في مصر قديمًا على المدرس) وبعضهم من البندر (البندر: أصلها فارسي، وتعني: مرسى السفن في الميناء، ويقصد بها هنا وفي عرف الريف المصري أنها البلد الكبير "المدينة أو المركز" والذي يتبعه عدة قرى)، وبعضهم من القرى المجاورة، كانوا يبقون في البلد طوال الأسبوع، ويذهبون إلى رؤية أهليهم يومي الخميس والجمعة، ثم يحضرون صباح السبت، فأما في أيام السنة العادية فإنهم يستقلون الحمير في الموعد المناسب فيصلون قبل ميعاد دق الجرس في صباح السبت.  
و أما في أيام الفيضان فهم يستقلون المراكب، والقوارب الشراعية، وهذه لا ضابط ولا ميعاد، ولا تصل غالبًا إلا بعد أن ترتفع الشمس، وتناهز الساعة العاشرة، بعد فوات وقت الدرسين الأول والثاني، وقد لا تصل حتى الظهر في بعض أيام السبت الجميلة!
و لقد كان التلاميذ يقفون على الشط أو يبعدون في شوارع القرية القريبة، أو يقفزون ويتصايحون في فناء المدرسة، ويدخلون الحجرات ثم يخرجون منها، في غير ما حرج، ودون شعور بأيِّ قيد، وكان يحلو لهم الدخول والخروج، واعتلاء المقاعد، والقماطر، والتلصص من النوافذ المطلة على مياه الفيضان.  
و كانت الجرأة تبلغ ببعضهم أن يخلعوا ملابسهم، ويلقوا بأنفسهم في الماء من النوافذ، فيسبحوا ثم يعودوا فيتسلقوا النوافذ، حيث يجدون ملابسهم، أو حيث لا يجدونها، إذ ينتهز بعض زملائهم هذه الفرصة فيخفونها، أو ينقلونها إلى مكان بعيد، حيث يدور الطفل يبحث عنها، وهو عريان! في كل مكان في المدرسة حتى يهتدي إليها أخيراً!
و تظل هذه الحالة العابثة المرحة حتى تقرب مركب أو قارب من عرض الفيضان ويخشى أن يكون فيها أحد الأفنديات (فقد كانوا يصلون متفرقين حسب المراكب التي تقوم من بلادهم المختلفة) وفي لمحة عين يكون كل تلميذ على مقعده، وأمامه مصحف أو كتاب يقرأ فيه، والنظام مستتب والأصوات خافتة، إلا من هيمنة القراءة دليلًا على شدة الاستغراق!
فأما إذا كان أحدهم في المركب فيها، فبها ونعمت، وها هم أولاء جميع التلاميذ في نظام تام!
وأما إذا كانت فارغة فقد نفخ في الصور مرة أخرى! وعادت الضجة بأعنف مما كانت وعاد القفز والوثب إلى الماء من النوافذ، وعلى الأرض في الفناء ويتكرر هذا في كل سبت طوال مدة الفيضان، وذلك كله رغم جهود "سيدنا: عبد الله"!
و "سيدنا: عبد الله" هذا هو خليفة "إبراهيم" الفراش، وهو من أهل البلد، وقد عُين فراشًا في المدينة! (لعله يقصد: المدرسة!)، بعد أن كان عريفًا في الكتاب، لأن المرتب الثابت، وقدره تسعون قرشًا في الشهر أضمن من نصيبه في "خميس" صبية الكتاب الذي لا يتجاوز خمسة قروش في كل أسبوع!
و مع أنه اشتغل فراشًا فقد ظل يحتفظ بلقبه القديم "سيدنا عبد الله"!
يقول "سيد قطب": ثم يذكر (يتحدث عن نفسه ولكن بضمير الغائب!) المفتش، ولو أنها ذكرى مرعبة، ولكنها الآن تبدو فكاهة لذيذة!: كان يزور المدرسة مفتشان شيخان!، أحدهما من مجلس المديرية، والآخر من وزارة المعارف، ومع أن حضور واحد منهما ينشف ريق! الأطفال دائمًا، ويلقي الرعب في قلوبهم، فوق هذا ما يربك المدرسين والمدرسة، ويخلع عليها ظلًا قاتمًا، وجوًا خانقًا، فإن مفتش الوزارة كان مصدر رعب أكبر من مفتش المجلس!
يقول: كان رجلًا فارعًا (يعني: طويلًا)، أسمر الأديم (الأديم: الجلد)، قاسي الملامح، حاد النظرات، يخيل إليك دائمًا أنه حاقد على شيء ما! ( وهنا نكتشف أن الحقد يجمع الحاقدين، وأن الحاقد يشعر بمثيله، وهنا ولأن "سيد قطب" كان شخصية حقودة بطبيعتها، ثم غذى هذا الحقد أحداث وأشياء كثيرة، سوف نذكر شيئًا منها أو أشياء منها في ثنايا بحثنا ودراستنا، وهو ما كان له أكبر الأثر فيما وصل إليه "سيد" من نظرة سوداوية للمجتمع وللعالم والدنيا والناس، أدت به في الأخير إلى تكفير مصر والعالم العربي، بل والبشرية كلها، على ما سيأتي بيانه!)، وأنه يصرّف أنيابه ( يقال: صرف أنيابه: أي سُمع لها صوت من احتكاك بعضها ببعض) من الغيظ الكظيم (يقال: كظم الرجل غيظه: إذا أمسك على ما نفسه من الغيظ وكتمه وسكت عن الكلام وإنفاذ الغيظ)، ولما كان مفتش الوزارة، لم يكن له بدٌّ أن يخلع على نفسه، وعلى زيارته أهمية غير أهمية مفتش المجلس!
لذلك كلن يبدو رزينًا (الرزين: الجاد) أكثر من اللازم، عنيفًا قاسيًا في حركاته، وكلماته، وإشارته، وكانت جبته (الجبة: ثوب سابغ، واسع الكُمين، مشقوق الكمين، يلبس فوق القفطان)، وقفطانه (القفطان: ثوب فضفاض وسابع، مشقوق من الأمام، ويضم طرفيه بحزام، وكان مع الجبة الزي الشائع في مصر للطبقة الوسطى وغالبية المصريين، حتى غزتنا أوروبا بزيها الحديث "البذلة، والكرافت"، فتخلوا عنه، وبقي زيًا رسميًا لمشائخ وعلماء الأزهر الشريف دون غيرهم) المنسدلان على بدنه (الُمنسدل: المُرخى ) الفارع (العالي أو الطويل) يزيدانه هيبة وهولًا.  
و كان يبدو على المدرسين فزع كبير، فينتقل منهم بالعدوى إلى التلاميذ، حتى لتبدو ساعات وجوده كأنها دهر طويل، وكأن الزمن لا يمر إلا ببطءٍ شديد!
ثم يذكر حادثًا قال عنه إنه لا ينساه أبدًا، فما هو يا تُرى؟!
هذا ما سنعرفه في المقال القادم إن شاء الله.  
وفي المقال القادم للحديث بقية، إن شاء ربُّ البرية.