قضية اختفاء ثم مصرع الشاب الإيطالى جوليو ريجينى شغلت الرأى العام فى مصر وفى إيطاليا وربما فى أوروبا كلها، والمرجح أن الضجة حولها ستستمر لفترة طويلة، أو لحين نجاح الأمن المصرى فى فك طلاسمها وألغازها والتوصل إلى الجانى أو مجموعة الجناة، ولكن ما لفت النظر هو طريقة معالجة الدولة المصرية بمؤسساتها الرسمية «وهذا يختلف عن معالجة الإعلام الجاهل المنحرف الذى ينزع إلى الإثارة والاختلاق والإفتاء السياسى والقانونى والأمنى بغير علم».
إذ بدت الدولة المصرية مهرولة منكفئة تتراجع فى غير نظام أمام أي شبهات ولو غير جادة حامت حولها بمجرد إعلان أخبار الجريمة.
انصب خطاب الدولة المصرية على نفى تورطها فى ارتكاب الجريمة وتقديم الأدلة والبراهين على براءتها، وراحت تنتفض مرتعشة كلما أشار إليها أصبع اتهام، لتنفى فى انفعال وزرزرة علاقتها بارتكاب جريمة القتل أو التعذيب الفظيع الذى أدى إليها.
والواقع أن رد الفعل المصرى للاتهامات التى وجهتها جهات إيطالية إليها بذلك النحو العصبى والمرتبك، أدى إلى تعزيز الاتهام إليها وليس العكس، إذ بدت الحالة المصرية الرسمية فى معالجة ملف قضية ريجينى وكأنها تطبيق عملى للمثل المشهور «يكاد المريب يقول خذونى»!
والحقيقة أن ذلك النهج المنكفئ المرتعش هو نتيجة مباشرة لإحساس الدولة بضعفها الذى تسببت فيه دون أى التباس عملية يناير ٢٠١١، والتى هبطت بقدرات مصر إلى سفح منخفض فعلًا، وجعلت الإدارة خائفة باستمرار، تعيش فى أسر عقدة المشهد العنكبوتى الذى أسقط نظامها من قبل وتضافرت فى نسجه منظمات أجنبية وجمعيات أهلية حقوقية وأجهزة مخابرات دولية، ومن ثم الدولة المصرية تخشى أن تجد نفسها لأى طارئ مفاجئ فى موقف مشابه تتصور أن أى حادث يقع فى اهتمام تلك الدوائر بحكم طبيعته وقدرته على إعادة إنتاج مشهد يناير ٢٠١١ ينبغى عليها أن تنفيه وتتنصل من مسئوليتها المتخيلة عنه.
ووفقًا لهلع الدولة المصرية من تكرار عملية يناير (وهو نفس الخوف الذى يدفعها إلى الارتعاش أمام مجموعات من النشطاء أو أنصاف السياسيين الذين قذف بهم يناير إلى مقدمة المشهد العام، واعتلوا كل منصات التعبير، وقبضوا على مقاعد القيادة والعضوية فى كل المجالس القومية فى مصر).
مصر اليوم تبدو دولة تحت احتلال جوقة سياسية معينة مرتبطة بيناير وباتجاه سياسى وعقائدى بعينه، وأداء حكومتها ومؤسساتها يبدو مرتعشا فيه الخطاب المعادى لمصر أو لنظامها ومن ذات الدوائر التى دمرت الدولة المصرية أو كادت إبان عملية يناير ٢٠١١.
إذن..
كيف كان على مصر أن تتصرف إزاء حادث ريجينى.
كان ينبغى على مصر أن تتحدث بثقة كتلك التى أظهرتها متأخرة جدا حين رفضت تسليم تسجيلات للمحادثات التليفونية فى منطقة الدقى أو منطقة العثور على ريجينى أو غيرها، وقالت إن ذلك مخالف للدستور، وكان يجب على الإعلام المصرى (إن كان ذلك الموجود يسمى إعلاما) أن يشرح كيف انتفضت أوروبا كلها فى بدايات هذا القرن حين أطلقت الولايات المتحدة شبكة (إيكيلون) للتنصت، وهاج ضدها البرلمان الأوروبى كله لأن أعمال التنصت فى القارة الأوروبية سوف تنتهك الحريات الشخصية والخصوصية للمواطنين الأوروبيين.. هكذا نطرح قضية اختراق الدستور التى تحاول إيطاليا إجبارنا عليها.
كان لابد ومن اللحظة الأولى أن نتحدث بثقة قائلين: إننا نجرى تحقيقاتنا بدقة، وإن تلك التحقيقات لم تصل إلى شيء بعد، وإذا كان لدى السلطات الإيطالية أى دليل أو برهان فلتسلمه لنا، وسوف نواصل التحقيقات حتى نصل إلى خيط يفضى بنا إلى معرفة الحقيقة.
فقط..
هذا هو المنطق ولون الخطاب الذى ينبغى أن تتحدث مصر به، وإذا تصاعد خطاب الحكومة الإيطالية فعلى الحكومة المصرية الرد بنفس النغمة (وفى إطار الحرص على الصداقة التقليدية بين البلدين)، وإذا دخل الاتحاد الأوروبى طرفا على خط تلك الأزمة، ينبغى على نحو محسوب وبنفس النغمة أن ترد عنا المنظمات الإقليمية التى نتبعها والمكافئة لوضع الاتحاد الأوروبى مثل الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامى، وحتى إن تقاعس نبيل العربى، أمين الجامعة، حتى يتولى أحمد أبوالغيط مهام منصبه فى أول يوليو المقبل، فإن الواجب يقتضى أن يضطلع أحد مسئولى الجامعة ليعلن موقفًا. ربما يحول بعض ارتباطات نبيل العربى الإقليمية دونه، وقد يكون ذلك غير تقليدى فى الأطر النظامية التى يلتزم بها العمل فى الجامعة ولكن ذلك أصبح أمرا ضروريا حتى تتمكن دول جامعة الدول العربية فى هذا الإطار المؤسسى الإقليمى من أداء واجبها فى مساندة الشقيقة الكبرى.
وأنا أعلم أن الإعلام المصرى فى اللحظة الراهنة جاهل مهنيا وسياسيا على نحو مروع ما تسبب فى كوارث بالذات فى أزمة اختفاء وتعذيب ومصرع ريجينى، ولكن على الدولة المصرية أن تتوقف عن ارتعاشها قليلا وتوجه إعلامها (القومى والخاص) إلى ضرورة التوقف عن الإفتاء فى الحادث بغير علم والعمل على الإشارة إلى احتمالات متعلقة بأعداء الدولة المصرية الحقيقيين الذين لهم مصلحة فى ضرب العلاقات المصرية الإيطالية مثل إسرائيل التى تضررت مصالحها الاقتصادية نتيجة التعاون المصرى الإيطالى فى مجال استخراج الغاز فى شرق البحر المتوسط، وكذلك جماعة الإخوان الإرهابية وتغلغل اتصالاتها فى البرلمان الأوروبى ومنظمات الاتحاد الأوروبى، وربما يفيد هنا رسم شجرة بيانات توضح اتصالات الإخوان بأعضاء مثل تلك المنظمات الإقليمية واتجاهات أولئك السياسية ونوع المواقف التى تبنوها فى الملفات المتعلقة بمصر.