نحن الذين نصنع الشائعة.. ثم نصدقها
على صفحته الشخصية بـ«فيسبوك» كتب أحدهم (وهو كاتب معارض) ما سماه تحليلًا سريعًا: «غياب الرئيس عن أى احتفال رسمى أمر وارد لأسباب متعددة، منها المرض لا قدر الله، أو السفر أو الانشغال ببرامج أخرى، لكن مهما كانت أسباب الغياب، هذا لا يمنع أن ينوب عنه أحد لإلقاء كلمته، وكما قالت المصادر ونشرت الصحف، كان هناك خطاب معد بالفعل، فأين نص الخطاب؟ ولماذا لم تتم قراءته فى الاحتفال؟ ولماذا الغياب المعنوى المتمثل فى كلمات من نوعية: بتوجيهات سيادة الرئيس، وبفضل حكمة السيد الرئيس، ونتوجه إلى السيد الرئيس، ونشكر السيد الرئيس، لقد ورد الاسم فى تقديم بروتوكولى أقل من عادى، وتحول الكلام إلى الشعب والوطن فى العموم».
وفى مرواغة تحليلية سريعة كتب صاحب التعليق: «قد تنطلق هذه التخمينات من عقلية المؤامرة، ومن مبدأ الشك، لكن مَنْ فرض علينا غموض أجواء المؤامرة، ومَنْ زرع فى نفوسنا الشك؟ من حقنا أن نخمن وأن نشك، حتى نطمئن، أو نتأكد من الحقيقة ونتخلص من الشك... نحن لا نتآمر... لكننا ندقق ونسأل ونتحسس، وطالما لا توجد بيانات قاطعة ومعلومات متداولة، سنبحث عنها ونناقشها بأى طريقة تتاح لنا».
لم يكن صاحب التحليل السريع وحده، هو من انتبه إلى أن الرئيس عبدالفتاح السيسى لم يحضر الندوة التثقيفية الـ٢٢ التى نظمتها القوات المسلحة، وكانت هذه المرة فى إطار الاحتفالات بذكرى تحرير سيناء الـ٣٤، وعنوانها كما تعرفون كان «سيناء... الحرب والسلام»... فقد تساءل عدد من حاضرى الندوة عن سبب غياب الرئيس، وتطور الأمر، عندما اقترح أحدهم أن يشير وزير الدفاع، الفريق أول صدقى صبحى، إلى سبب غياب الرئيس عن الندوة، حتى لا يتم تفسير الأمر بشكل سيئ، لكن أحد المسئولين عن الندوة، قال: «لا داعى لذلك على الإطلاق، فالأمر عادى، والرئيس لم يكن سيحضر من الأساس، ثم لماذا نتعامل مع الأمر بحساسية».
■ ■ ■
لا يمكن تجاهل الأمر بالطبع، لا أقصد غياب الرئيس عن ندوة كان حريصًا على حضورها وبشكل دائم فى الشهور الماضية، بل كان حريصًا جدًا على أن يلقى كلمة يوجهها للمصريين جميعًا، وليس للمشاركين فى الندوة فقط، ولكنى أقصد تحديدًا ظهور السؤال عن غياب الرئيس.
عندما تلقيت الدعوة لحضور الندوة، لم يتحدث أحد معى عن حضور الرئيس من الأساس، ولم يكن هناك إلا خبر قصير نشره موقع «المصرى اليوم» عن مشاركة الرئيس فى أعمال الندوة، ولم ينشر أى موقع آخر شيئًا يتعلق بالحضور من عدمه... كانت الدعوات كلها من الشئون المعنوية، لم تظهر مؤسسة الرئاسة فى جملة مفيدة على الإطلاق، وكان معروفًا أن الرئيس عبدالفتاح السيسى يستعد لاستقبال ولى عهد أبوظبى الشيخ محمد بن زايد، هذا غير ارتباطاته بمقابلات أخرى.
عندما وصلنا إلى قاعة مسرح الجلاء الذى شهد أعمال الندوة، لم يحدثنا أحد عن حضور الرئيس أو مشاركته، وأعتقد أنه لو كان مخططًا له الحضور لعرفنا من الوهلة الأولى.
بدأت الندوة، وأعلن العقيد ياسر وهبة، مقدم الحفل، عن دخول الدكتور على عبدالعال، رئيس مجلس النواب، والمهندس شريف إسماعيل، رئيس مجلس الوزراء، والقائد العام للقوات المسلحة، الفريق أول صدقى صبحى، دخل الثلاثة وجلسوا فى مقاعدهم بالصف الأول، ولم يكن هناك مقعد مخصص للرئيس من اللحظة الأولى.
رفعت الجلسة الأولى من الندوة لاستراحة وصلت إلى نصف الساعة، تساءل خلالها البعض: هل سيشارك الرئيس؟ اعتقد البعض أنه سيحضر فى الجلسة الثانية ليلقى كلمة فى نهاية الندوة، وكانت الإجابة أن الرئيس لن يشارك، وهو ما حدث بالفعل؟
الأمر كله كان عاديًا جدًا، ندوة تثقيفية دورية تعقدها القوات المسلحة، يحضرها كل مرة عدد من أبناء الجيش على اختلاف رتبهم - هذه المرة نقلت عبر الفيديو كونفراس إلى جميع الأفرع الرئيسية والجيوش الميدانية والمناطق العسكرية - وعدد من الإعلاميين والشخصيات العامة من الكتاب والمثقفين والفنانين، وكان السيسى يحضرها باستمرار عندما كان وزيرًا للدفاع، وحضرها بعد أن أصبح رئيسًا، لأنه كان هناك ما يستدعى وجوده، فقد كان يأخذ منها مناسبة لتوجيه رسائل إلى الشعب المصرى والعالم كله.
هذه المرة عقدت الندوة، التى لم تكن هى الاحتفال بذكرى تحرير سيناء، ولكنها جاءت فى إطار الاحتفالات، والفارق بينهما كبير، وكانت فعليًا ندوة تثقيفية بالمعنى الكامل، عرضت خلالها مجموعة من المحاضرات والكلمات وكان من أهمها ما قاله الدكتور أسامة الأزهرى عن سيناء فى الأديان السماوية، ثم المحاضرة الشاملة التى ألقاها اللواء ناجى شهود، الخبير الاستراتيجى والعسكرى، عن مراحل وأسلوب تهيئة المجتمع المصرى لإزالة الآثار النفسية والمعنوية لعدوان ١٩٦٧، والعرض الشامل الذى قدمه الفريق أسامة عسكر، قائد قوات شرق القناة، لمكافحة الإرهاب عن جهود القوات المسلحة بالتعاون مع جميع أجهزة الدولة فى تنمية سيناء.
توالت بعد ذلك كلمات على عبدالعال وشريف إسماعيل ووزير الداخلية مجدى عبدالغفار، ثم جاءت كلمة الفريق أول صدقى صبحى، وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة، وأعتقد أن الحماس الذى قيلت به، وبعض العبارات التى وردت بها، هى التى جعلت كثيرين يعتقدون أن غياب الرئيس عن الندوة لا بد أن يكون له سبب.
لم تختلف كلمة وزير الدفاع عن الخط الذى يعلنه ويقوده ويتبناه ويؤكد عليه عبدالفتاح السيسى.
قال صدقى: «مصر ستظل وطنًا آمنًا، وأنها آمنة بإذن الله، وبقواتها المسلحة القوية الوطنية التى تتحمل مسئولية الحفاظ على أمن مصر القومى فى الداخل والخارج».
وقال أيضا: «لا تهاون مع من يحاول استباحة أرضنا، أو نشر الفوضى على حدودنا، ولن نقبل ابتزازنا من أحد مهما كان».
وقال: «القوات المسلحة ستظل بعطاء رجالها وتضحياتهم دوما درعا قوية للوطن، تحمى قدسية أراضيه، وحصنا منيعا للشعب يصون له تاريخه وأمجاده».
وقال: «جيش مصر وطنى شريف جدير بثقة شعبه بما يقدمه من عطاء وتضحيات للحفاظ على أمن الوطن واستقراره».
قال: «إننى أدعو المصريين جميعًا للالتقاء على كلمة سواء تعلى من مصالح الوطن فوق المصالح الذاتية، وفوق كل اعتبار، لكى نمضى معا بجهد مخلص وصادق نعلى مكانة مصر ونصون عزتها».
وقال أخيرًا: «نحفظ كرامة مصر ونضحى من أجلها بكل غال ونفيس، نباهى بها وطنا آمنا عريقا مستقرا، يسعى شعبه إلى بناء المستقبل الأفضل للأبناء والأحفاد بإرادة حرة لا تعرف الإملاءات أو المغريات، وتفرق بين الحق والباطل والغث والثمين، وتؤكد أن الشعب هو السيد والقائد والمعلم».
لم يختلف ما قاله وزير الدفاع فى كلمة واحدة عما يقوله الرئيس عبدالفتاح السيسى، لكن هناك من أراد أن يأخذ من هذا الكلام دليلًا على أن هناك خلافًا بين القائدين، وأن حماس صدقى صبحى وهو يتحدث عن الشعب، ورفض الابتزاز والإملاءات والمغريات مؤكد أنه موجه للرئيس نفسه، وكأن السيسى مثلًا أعلن أنه يقبل الابتزاز والإملاءات ويخضع للمغريات.
لم أر فارقًا على الإطلاق بين المنهج الذى تحدث به الفريق أول صدقى صبحى، والحديث الدائم الذى يردده السيسى عن دور الجيش ورسالته، لكن من فى قلوبهم مرض، أرادوا أن يصنعوا من عدم حضوره الندوة أزمة، ولم تكن هذه هى المحاولة الأولى، فقد سبقتها محاولات أخرى.
فى قصر الاتحادية عندما دعا السيسى ممثلى الفئات المختلفة ليتحدث معهم عن اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية، التقط البعض صورًا لوزير الدفاع وهو يجلس إلى جوار السيسى، وحاولوا أن يستنطقوها، ليقولوا إن هناك خلافًا، فمؤكد أن الجيش يرفض الاتفاقية، وأنه غير راض عما فعله الرئيس، ولم يكن هذا صحيحًا، فالأجواء بين الرئيس ووزير دفاعه كانت ودية كما هى دائمة، والود ليس مرده أنهما صديقان وبينهما تفاهم نادر، ولكن لأنه لا خلاف بينهما على الإطلاق، وأذكر أن وزير الدفاع كان متفاعلا بشكل كبير خلال الجلسة، وضحك بشدة، عندما طلب النائب محمد كلوب أن يدخل الحمام، بطريقة أثارت ضحك الجميع وسخريتهم أيضًا.
مرت هذه المحاولة دون أن تترك أثرًا يذكر، لكن كانت هناك محاولة أخرى، استند أصحابها إلى تقرير نشره مركز الأبحاث الأمريكى «سترانفورد»... حيث قالوا نقلًا عنه، إنه فى ضوء ما يحدث فى مصر فى الفترة الأخيرة قام مركز أبحاث سترانفورد المتخصص فى الأبحاث الاستراتيجية بالنشر على موقعه الرسمى بأن المجلس العسكرى حذر السيسى من التنازل عن جزيرتى تيران وصنافير للسعودية، وجاء هذا الخبر طبقًا لمصادرهم الخاصة كما قالوا على موقعهم الرسمى، وجاء التحذير طبقًا للمنقول عن سترانفورد لأن الشعب سيعتبر الأمر بيعًا وليس تنازلًا، مما سيؤدى إلى الانقلاب عليه، ويقود إلى موجة من الغضب فى الشارع المصرى.
تم وأد هذا الخبر فى مهده، فلم يلتفت له أحد، ليس لأن مركز «ستراتفور» الذى تأسس فى العام ١٩٩٦، إحدى المؤسسات الخاصة الكبرى فى قطاع الاستخبارات وله علاقة وثيقة بالمخابرات المركزية الأمريكية، ولكن لأن فى الغالب، الخبر نفسه مفبرك، فلا يوجد دليل واحد على أنه نشر خبرًا بهذا الشكل وهذه التفاصيل، وكل ما فى الأمر أن بعض المواقع المعادية للنظام المصرى هى التى اجتهدت فى نسج خبر بهذا الشكل فى إطار الحرب النفسية التى تشنها على السيسى والذين معه، والحرب هذه المرة تأتى من خلال إحداث الوقيعة بين الرئيس والجيش، وإظهار أن هناك خلافات بينهما.
العلاقة بين الجيش والسيسى واضحة جدًا، فالجيش هو جيش الدولة وليس جيش الرئيس، يعرف هو ذلك جدًا، عبر عنه بنفسه، أشار إلى أن الجيش سينحاز للشعب فى أى وقت وفى أى ظرف، وحتى لو خرج الشعب على السيسى نفسه فسوف ينحاز الجيش إلى الشعب، وهذه قاعدة أعتقد أنه لا أحد فى الجيش كله يمكن أن يخضعها للنقاش، وهو ما يجعل المتربصين بالنظام يروجون لشائعات الخلاف والشقاق بين القائد العام وجموع الجيش.
غياب الرئيس عن الندوة التثقيفية التى عقدتها القوات المسلحة كان مناسبة لتجديد الشكوك ومحاولة تغذية المؤامرة، وهو ما جعل بعض الحاضرين من أصحاب القلب الضعيف يطالبون بتوضيح أو إصدار بيان يوضح أسباب الغياب، لكن القائمين على الأمور، قرروا ألا يتعاملوا مع الأمر بجدية، وحسنا فعلوا، فليس معقولًا أن نخضع لابتزاز أصحاب الشائعات التى يصنعونها على أعينهم، نمنحهم فرصة أن يفرضوا علينا ما يقولونه، رغم معرفتنا المؤكدة أنهم يخططون لزرع الشقاق والخلاف.
لقد كان عدم حضور الرئيس عبدالفتاح السيسى ندوة القوات المسلحة موفقًا جدا، حتى لو لم يكن لديه جدول أعمال محدد سلفًا، فلو أنه حضر لكان ألقى كلمة، وقد طالبت، وما زلت أطالب، بأن يقلل الرئيس من الكلام، لأن كلمته قرار، ثم أنه إذا كان الرئيس ليس لديه شىء جديد يقوله للشعب فلماذا يتحدث من الأساس؟
لقد غضب البعض من أن الرئيس يحضر كل الفعاليات، يظهر فى الصورة بمفرده، لا يترك الفرصة لأحد أن يتنفس، وعندما غاب تاركًا المساحة للحكومة ووزير الدفاع ليحتلا الصورة بمفردهما، غضبوا أيضا، وتساءلوا عن عدم حضوره، وبدأوا فى البحث عن دلالات وأسباب ومعان، وأحالوا الأمر على أنه لا بد أن تكون هناك علة للغياب، وصدورا لنا الشك والريبة فى الأمر، فما هو المطلوب بالضبط.
لقد ضقنا كثيرا بمن يرددون أن كل شىء يتم بتوجيهات الرئيس، وأن حكمة الرئيس وحدها مَنْ تسير الأمور، فإذا ما خرج مسئولون ليتحدثوا عما يفعلونه، دون أن يشيروا بين جملة وأخرى إلى الرئيس، قلنا إن حضور الرئيس ضعيف، ثم ذهبنا نبحث عن دلالات ذلك ومعانيه أيضا، وفسرنا الأمر على أنه لا بد أن يكون هناك قلق فى الأفق، وجلسنا ننتظر الانفجار، رغم أنه ليس هناك انفجار ولا يحزنون.
بعد كل ما قلته لك، أعتقد أنك ما زلت تسأل: ما الذى جعل الرئيس يغيب إذن؟
وبقاء السؤال فى ذهنك سببه أن من يريدون تشتيت انتباهنا عن أزماتنا الكبرى، نجحوا بالفعل فى أن يجعلونا نلتفت إلى توافه الأمور، ونستنطق الأشياء ما ليس فيها، حتى ننشغل بأن هناك أزمة.. والعقل يقول إننا لو جلسنا لاستدعاء الأزمة حتى لو لم تكن موجودة فسوف تأتى، وهذا هو المقصد والمراد.
لقد قلت بوضوح إننى لا أخشى على مصر مما يدور خارجها، رغم أنه معروف، ومحدد، ونراه رأى العين، فهناك من يخطط لإفشال هذا النظام، ليس كرهًا فيه فقط، ولكن لأنه يريد أن يسيطر على هذا الوطن، ويصيغه على هواه، ومن لا يصدق ذلك، فليس عليه إلا أن ينتظر حتى تقع الطامة الكبرى، وساعتها لا يلومن إلا نفسه، فساعتها لن يكون لدينا وقت لنلومه أو نذكره بما قاله أو فعله، ولكنى أخاف علينا مما يدور هنا فى الداخل، ونقوم نحن بصناعته ونسجه ببراعة شديدة.
إننا نعمل على إخصاء أنفسنا ببراعة، كرجل أراد أن يغيظ امرأته فأخصى نفسه، نبدد كل الفرص التى يمكن أن نحافظ بها على هذا الوطن، نتربص ببعضنا البعض، نشك فى بعضنا البعض، لا نصدق بعضنا البعض... وهى حالة لا تستدعى إلا الخراب الكامل.
لا أنكر أن النظام يقع فى أخطاء كثيرة، ويساهم هو نفسه فى تثوير الشارع ضده، والأسباب كثيرة ومتعددة، يعرفها هو جيدا ربما بأكثر مما نعرفها نحن، لكنه يصر على نمط إدارة قديم، لم يعد يصلح لإدارة شعب طامح لأن يحصل على كل حقوقه مرة واحدة، لكننا أيضا نقع فى أخطاء كثيرة، وهى الأخطاء التى نعرفها لكن لا نريد أن نعترف بها أبدًا. ليس النظام وحده من يعانى أزمات حادة تهدد بقاءه، لكننا أيضا كشعب نعانى من أزمات حادة تهدد أمننا واستقرارنا، ولا حل إلا إذا اجتمعنا على كلمة سواء، ليس من أجل السيسى أو غيره، ولكن من أجلنا نحن... فهل نفعلها، أن نظل على عنادنا، وهو العناد الذى لن يولد إلا الخراب.
اللهم قد بلغت.. اللهم فاشهد.
على صفحته الشخصية بـ«فيسبوك» كتب أحدهم (وهو كاتب معارض) ما سماه تحليلًا سريعًا: «غياب الرئيس عن أى احتفال رسمى أمر وارد لأسباب متعددة، منها المرض لا قدر الله، أو السفر أو الانشغال ببرامج أخرى، لكن مهما كانت أسباب الغياب، هذا لا يمنع أن ينوب عنه أحد لإلقاء كلمته، وكما قالت المصادر ونشرت الصحف، كان هناك خطاب معد بالفعل، فأين نص الخطاب؟ ولماذا لم تتم قراءته فى الاحتفال؟ ولماذا الغياب المعنوى المتمثل فى كلمات من نوعية: بتوجيهات سيادة الرئيس، وبفضل حكمة السيد الرئيس، ونتوجه إلى السيد الرئيس، ونشكر السيد الرئيس، لقد ورد الاسم فى تقديم بروتوكولى أقل من عادى، وتحول الكلام إلى الشعب والوطن فى العموم».
وفى مرواغة تحليلية سريعة كتب صاحب التعليق: «قد تنطلق هذه التخمينات من عقلية المؤامرة، ومن مبدأ الشك، لكن مَنْ فرض علينا غموض أجواء المؤامرة، ومَنْ زرع فى نفوسنا الشك؟ من حقنا أن نخمن وأن نشك، حتى نطمئن، أو نتأكد من الحقيقة ونتخلص من الشك... نحن لا نتآمر... لكننا ندقق ونسأل ونتحسس، وطالما لا توجد بيانات قاطعة ومعلومات متداولة، سنبحث عنها ونناقشها بأى طريقة تتاح لنا».
لم يكن صاحب التحليل السريع وحده، هو من انتبه إلى أن الرئيس عبدالفتاح السيسى لم يحضر الندوة التثقيفية الـ٢٢ التى نظمتها القوات المسلحة، وكانت هذه المرة فى إطار الاحتفالات بذكرى تحرير سيناء الـ٣٤، وعنوانها كما تعرفون كان «سيناء... الحرب والسلام»... فقد تساءل عدد من حاضرى الندوة عن سبب غياب الرئيس، وتطور الأمر، عندما اقترح أحدهم أن يشير وزير الدفاع، الفريق أول صدقى صبحى، إلى سبب غياب الرئيس عن الندوة، حتى لا يتم تفسير الأمر بشكل سيئ، لكن أحد المسئولين عن الندوة، قال: «لا داعى لذلك على الإطلاق، فالأمر عادى، والرئيس لم يكن سيحضر من الأساس، ثم لماذا نتعامل مع الأمر بحساسية».
■ ■ ■
لا يمكن تجاهل الأمر بالطبع، لا أقصد غياب الرئيس عن ندوة كان حريصًا على حضورها وبشكل دائم فى الشهور الماضية، بل كان حريصًا جدًا على أن يلقى كلمة يوجهها للمصريين جميعًا، وليس للمشاركين فى الندوة فقط، ولكنى أقصد تحديدًا ظهور السؤال عن غياب الرئيس.
عندما تلقيت الدعوة لحضور الندوة، لم يتحدث أحد معى عن حضور الرئيس من الأساس، ولم يكن هناك إلا خبر قصير نشره موقع «المصرى اليوم» عن مشاركة الرئيس فى أعمال الندوة، ولم ينشر أى موقع آخر شيئًا يتعلق بالحضور من عدمه... كانت الدعوات كلها من الشئون المعنوية، لم تظهر مؤسسة الرئاسة فى جملة مفيدة على الإطلاق، وكان معروفًا أن الرئيس عبدالفتاح السيسى يستعد لاستقبال ولى عهد أبوظبى الشيخ محمد بن زايد، هذا غير ارتباطاته بمقابلات أخرى.
عندما وصلنا إلى قاعة مسرح الجلاء الذى شهد أعمال الندوة، لم يحدثنا أحد عن حضور الرئيس أو مشاركته، وأعتقد أنه لو كان مخططًا له الحضور لعرفنا من الوهلة الأولى.
بدأت الندوة، وأعلن العقيد ياسر وهبة، مقدم الحفل، عن دخول الدكتور على عبدالعال، رئيس مجلس النواب، والمهندس شريف إسماعيل، رئيس مجلس الوزراء، والقائد العام للقوات المسلحة، الفريق أول صدقى صبحى، دخل الثلاثة وجلسوا فى مقاعدهم بالصف الأول، ولم يكن هناك مقعد مخصص للرئيس من اللحظة الأولى.
رفعت الجلسة الأولى من الندوة لاستراحة وصلت إلى نصف الساعة، تساءل خلالها البعض: هل سيشارك الرئيس؟ اعتقد البعض أنه سيحضر فى الجلسة الثانية ليلقى كلمة فى نهاية الندوة، وكانت الإجابة أن الرئيس لن يشارك، وهو ما حدث بالفعل؟
الأمر كله كان عاديًا جدًا، ندوة تثقيفية دورية تعقدها القوات المسلحة، يحضرها كل مرة عدد من أبناء الجيش على اختلاف رتبهم - هذه المرة نقلت عبر الفيديو كونفراس إلى جميع الأفرع الرئيسية والجيوش الميدانية والمناطق العسكرية - وعدد من الإعلاميين والشخصيات العامة من الكتاب والمثقفين والفنانين، وكان السيسى يحضرها باستمرار عندما كان وزيرًا للدفاع، وحضرها بعد أن أصبح رئيسًا، لأنه كان هناك ما يستدعى وجوده، فقد كان يأخذ منها مناسبة لتوجيه رسائل إلى الشعب المصرى والعالم كله.
هذه المرة عقدت الندوة، التى لم تكن هى الاحتفال بذكرى تحرير سيناء، ولكنها جاءت فى إطار الاحتفالات، والفارق بينهما كبير، وكانت فعليًا ندوة تثقيفية بالمعنى الكامل، عرضت خلالها مجموعة من المحاضرات والكلمات وكان من أهمها ما قاله الدكتور أسامة الأزهرى عن سيناء فى الأديان السماوية، ثم المحاضرة الشاملة التى ألقاها اللواء ناجى شهود، الخبير الاستراتيجى والعسكرى، عن مراحل وأسلوب تهيئة المجتمع المصرى لإزالة الآثار النفسية والمعنوية لعدوان ١٩٦٧، والعرض الشامل الذى قدمه الفريق أسامة عسكر، قائد قوات شرق القناة، لمكافحة الإرهاب عن جهود القوات المسلحة بالتعاون مع جميع أجهزة الدولة فى تنمية سيناء.
توالت بعد ذلك كلمات على عبدالعال وشريف إسماعيل ووزير الداخلية مجدى عبدالغفار، ثم جاءت كلمة الفريق أول صدقى صبحى، وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة، وأعتقد أن الحماس الذى قيلت به، وبعض العبارات التى وردت بها، هى التى جعلت كثيرين يعتقدون أن غياب الرئيس عن الندوة لا بد أن يكون له سبب.
لم تختلف كلمة وزير الدفاع عن الخط الذى يعلنه ويقوده ويتبناه ويؤكد عليه عبدالفتاح السيسى.
قال صدقى: «مصر ستظل وطنًا آمنًا، وأنها آمنة بإذن الله، وبقواتها المسلحة القوية الوطنية التى تتحمل مسئولية الحفاظ على أمن مصر القومى فى الداخل والخارج».
وقال أيضا: «لا تهاون مع من يحاول استباحة أرضنا، أو نشر الفوضى على حدودنا، ولن نقبل ابتزازنا من أحد مهما كان».
وقال: «القوات المسلحة ستظل بعطاء رجالها وتضحياتهم دوما درعا قوية للوطن، تحمى قدسية أراضيه، وحصنا منيعا للشعب يصون له تاريخه وأمجاده».
وقال: «جيش مصر وطنى شريف جدير بثقة شعبه بما يقدمه من عطاء وتضحيات للحفاظ على أمن الوطن واستقراره».
قال: «إننى أدعو المصريين جميعًا للالتقاء على كلمة سواء تعلى من مصالح الوطن فوق المصالح الذاتية، وفوق كل اعتبار، لكى نمضى معا بجهد مخلص وصادق نعلى مكانة مصر ونصون عزتها».
وقال أخيرًا: «نحفظ كرامة مصر ونضحى من أجلها بكل غال ونفيس، نباهى بها وطنا آمنا عريقا مستقرا، يسعى شعبه إلى بناء المستقبل الأفضل للأبناء والأحفاد بإرادة حرة لا تعرف الإملاءات أو المغريات، وتفرق بين الحق والباطل والغث والثمين، وتؤكد أن الشعب هو السيد والقائد والمعلم».
لم يختلف ما قاله وزير الدفاع فى كلمة واحدة عما يقوله الرئيس عبدالفتاح السيسى، لكن هناك من أراد أن يأخذ من هذا الكلام دليلًا على أن هناك خلافًا بين القائدين، وأن حماس صدقى صبحى وهو يتحدث عن الشعب، ورفض الابتزاز والإملاءات والمغريات مؤكد أنه موجه للرئيس نفسه، وكأن السيسى مثلًا أعلن أنه يقبل الابتزاز والإملاءات ويخضع للمغريات.
لم أر فارقًا على الإطلاق بين المنهج الذى تحدث به الفريق أول صدقى صبحى، والحديث الدائم الذى يردده السيسى عن دور الجيش ورسالته، لكن من فى قلوبهم مرض، أرادوا أن يصنعوا من عدم حضوره الندوة أزمة، ولم تكن هذه هى المحاولة الأولى، فقد سبقتها محاولات أخرى.
فى قصر الاتحادية عندما دعا السيسى ممثلى الفئات المختلفة ليتحدث معهم عن اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية، التقط البعض صورًا لوزير الدفاع وهو يجلس إلى جوار السيسى، وحاولوا أن يستنطقوها، ليقولوا إن هناك خلافًا، فمؤكد أن الجيش يرفض الاتفاقية، وأنه غير راض عما فعله الرئيس، ولم يكن هذا صحيحًا، فالأجواء بين الرئيس ووزير دفاعه كانت ودية كما هى دائمة، والود ليس مرده أنهما صديقان وبينهما تفاهم نادر، ولكن لأنه لا خلاف بينهما على الإطلاق، وأذكر أن وزير الدفاع كان متفاعلا بشكل كبير خلال الجلسة، وضحك بشدة، عندما طلب النائب محمد كلوب أن يدخل الحمام، بطريقة أثارت ضحك الجميع وسخريتهم أيضًا.
مرت هذه المحاولة دون أن تترك أثرًا يذكر، لكن كانت هناك محاولة أخرى، استند أصحابها إلى تقرير نشره مركز الأبحاث الأمريكى «سترانفورد»... حيث قالوا نقلًا عنه، إنه فى ضوء ما يحدث فى مصر فى الفترة الأخيرة قام مركز أبحاث سترانفورد المتخصص فى الأبحاث الاستراتيجية بالنشر على موقعه الرسمى بأن المجلس العسكرى حذر السيسى من التنازل عن جزيرتى تيران وصنافير للسعودية، وجاء هذا الخبر طبقًا لمصادرهم الخاصة كما قالوا على موقعهم الرسمى، وجاء التحذير طبقًا للمنقول عن سترانفورد لأن الشعب سيعتبر الأمر بيعًا وليس تنازلًا، مما سيؤدى إلى الانقلاب عليه، ويقود إلى موجة من الغضب فى الشارع المصرى.
تم وأد هذا الخبر فى مهده، فلم يلتفت له أحد، ليس لأن مركز «ستراتفور» الذى تأسس فى العام ١٩٩٦، إحدى المؤسسات الخاصة الكبرى فى قطاع الاستخبارات وله علاقة وثيقة بالمخابرات المركزية الأمريكية، ولكن لأن فى الغالب، الخبر نفسه مفبرك، فلا يوجد دليل واحد على أنه نشر خبرًا بهذا الشكل وهذه التفاصيل، وكل ما فى الأمر أن بعض المواقع المعادية للنظام المصرى هى التى اجتهدت فى نسج خبر بهذا الشكل فى إطار الحرب النفسية التى تشنها على السيسى والذين معه، والحرب هذه المرة تأتى من خلال إحداث الوقيعة بين الرئيس والجيش، وإظهار أن هناك خلافات بينهما.
العلاقة بين الجيش والسيسى واضحة جدًا، فالجيش هو جيش الدولة وليس جيش الرئيس، يعرف هو ذلك جدًا، عبر عنه بنفسه، أشار إلى أن الجيش سينحاز للشعب فى أى وقت وفى أى ظرف، وحتى لو خرج الشعب على السيسى نفسه فسوف ينحاز الجيش إلى الشعب، وهذه قاعدة أعتقد أنه لا أحد فى الجيش كله يمكن أن يخضعها للنقاش، وهو ما يجعل المتربصين بالنظام يروجون لشائعات الخلاف والشقاق بين القائد العام وجموع الجيش.
غياب الرئيس عن الندوة التثقيفية التى عقدتها القوات المسلحة كان مناسبة لتجديد الشكوك ومحاولة تغذية المؤامرة، وهو ما جعل بعض الحاضرين من أصحاب القلب الضعيف يطالبون بتوضيح أو إصدار بيان يوضح أسباب الغياب، لكن القائمين على الأمور، قرروا ألا يتعاملوا مع الأمر بجدية، وحسنا فعلوا، فليس معقولًا أن نخضع لابتزاز أصحاب الشائعات التى يصنعونها على أعينهم، نمنحهم فرصة أن يفرضوا علينا ما يقولونه، رغم معرفتنا المؤكدة أنهم يخططون لزرع الشقاق والخلاف.
لقد كان عدم حضور الرئيس عبدالفتاح السيسى ندوة القوات المسلحة موفقًا جدا، حتى لو لم يكن لديه جدول أعمال محدد سلفًا، فلو أنه حضر لكان ألقى كلمة، وقد طالبت، وما زلت أطالب، بأن يقلل الرئيس من الكلام، لأن كلمته قرار، ثم أنه إذا كان الرئيس ليس لديه شىء جديد يقوله للشعب فلماذا يتحدث من الأساس؟
لقد غضب البعض من أن الرئيس يحضر كل الفعاليات، يظهر فى الصورة بمفرده، لا يترك الفرصة لأحد أن يتنفس، وعندما غاب تاركًا المساحة للحكومة ووزير الدفاع ليحتلا الصورة بمفردهما، غضبوا أيضا، وتساءلوا عن عدم حضوره، وبدأوا فى البحث عن دلالات وأسباب ومعان، وأحالوا الأمر على أنه لا بد أن تكون هناك علة للغياب، وصدورا لنا الشك والريبة فى الأمر، فما هو المطلوب بالضبط.
لقد ضقنا كثيرا بمن يرددون أن كل شىء يتم بتوجيهات الرئيس، وأن حكمة الرئيس وحدها مَنْ تسير الأمور، فإذا ما خرج مسئولون ليتحدثوا عما يفعلونه، دون أن يشيروا بين جملة وأخرى إلى الرئيس، قلنا إن حضور الرئيس ضعيف، ثم ذهبنا نبحث عن دلالات ذلك ومعانيه أيضا، وفسرنا الأمر على أنه لا بد أن يكون هناك قلق فى الأفق، وجلسنا ننتظر الانفجار، رغم أنه ليس هناك انفجار ولا يحزنون.
بعد كل ما قلته لك، أعتقد أنك ما زلت تسأل: ما الذى جعل الرئيس يغيب إذن؟
وبقاء السؤال فى ذهنك سببه أن من يريدون تشتيت انتباهنا عن أزماتنا الكبرى، نجحوا بالفعل فى أن يجعلونا نلتفت إلى توافه الأمور، ونستنطق الأشياء ما ليس فيها، حتى ننشغل بأن هناك أزمة.. والعقل يقول إننا لو جلسنا لاستدعاء الأزمة حتى لو لم تكن موجودة فسوف تأتى، وهذا هو المقصد والمراد.
لقد قلت بوضوح إننى لا أخشى على مصر مما يدور خارجها، رغم أنه معروف، ومحدد، ونراه رأى العين، فهناك من يخطط لإفشال هذا النظام، ليس كرهًا فيه فقط، ولكن لأنه يريد أن يسيطر على هذا الوطن، ويصيغه على هواه، ومن لا يصدق ذلك، فليس عليه إلا أن ينتظر حتى تقع الطامة الكبرى، وساعتها لا يلومن إلا نفسه، فساعتها لن يكون لدينا وقت لنلومه أو نذكره بما قاله أو فعله، ولكنى أخاف علينا مما يدور هنا فى الداخل، ونقوم نحن بصناعته ونسجه ببراعة شديدة.
إننا نعمل على إخصاء أنفسنا ببراعة، كرجل أراد أن يغيظ امرأته فأخصى نفسه، نبدد كل الفرص التى يمكن أن نحافظ بها على هذا الوطن، نتربص ببعضنا البعض، نشك فى بعضنا البعض، لا نصدق بعضنا البعض... وهى حالة لا تستدعى إلا الخراب الكامل.
لا أنكر أن النظام يقع فى أخطاء كثيرة، ويساهم هو نفسه فى تثوير الشارع ضده، والأسباب كثيرة ومتعددة، يعرفها هو جيدا ربما بأكثر مما نعرفها نحن، لكنه يصر على نمط إدارة قديم، لم يعد يصلح لإدارة شعب طامح لأن يحصل على كل حقوقه مرة واحدة، لكننا أيضا نقع فى أخطاء كثيرة، وهى الأخطاء التى نعرفها لكن لا نريد أن نعترف بها أبدًا. ليس النظام وحده من يعانى أزمات حادة تهدد بقاءه، لكننا أيضا كشعب نعانى من أزمات حادة تهدد أمننا واستقرارنا، ولا حل إلا إذا اجتمعنا على كلمة سواء، ليس من أجل السيسى أو غيره، ولكن من أجلنا نحن... فهل نفعلها، أن نظل على عنادنا، وهو العناد الذى لن يولد إلا الخراب.
اللهم قد بلغت.. اللهم فاشهد.