مع «الساخر العظيم» صلاح جاهين، على حد وصف محمد حسنين هيكل المبكر له في مقاله «بصراحة» بمناسبة افتتاح مبنى جريدة «الأهرام».
مع الشاعر الرائد والرسام المبدع صلاح جاهين.. في ذكراه الثلاثين.
ولعلنا نتناول هنا نقطة أو ملاحظة.. في قصة جاهين الزاخرة وسيرته المتفردة.
الحقيقة أن الذي أتعس جاهين إلى حد الشعور بالاكتئاب والإحباط ليس (نكسة ١٩٦٧)، إنما أن يعيش ويرى بعينيه النكوص والارتداد بعيدًا وبحدة (٣٦٠ درجة) لنظام الحكم بعد عبد الناصر، وتوجهات هذا النظام خاصة ابتداء من ١٩٧٤، وعلى امتداد عهد السادات، وخلال عهد خلفه مبارك حتى عام رحيل جاهين (١٩٨٦).. تلك التوجهات المضادة والمناقضة لأبعد مدى لكل توجهات الوطنية المصرية كما عرفها جاهين، ولكل المبادئ والقيم التي آمن بها خلال عصر يوليو وناصر، وتغنى بها وكتب لها أحسن وأعذب وأصدق الأشعار والأغنيات، وفجأة يجد جاهين كل هذا في لحظة لينهار!!
وكل من يعرفون جاهين عن قرب، يؤكدون أن جاهين كان رأيه في السادات سلبيًا إلى أبعد حد، وله أوصاف وتعبيرات عنه قاسية، ومما زاد من مرارة صلاح جاهين أن عمله ودخله الثابت الأساسى، كان من رسمه الكاريكاتير اليومى بجريدة «الأهرام»، التي تحولت من «أهرام» (وصرح) صديقه الكبير هيكل، إلى «أهرام» نوعية أخرى نقيضة من رؤساء تحرير.
القهر.. هو في كلمة واحدة، ما شعر به جاهين، وهو يضطر إلى أن يقدم رسومًا أحيانًا (ولو قليلًا أو نادرًا)، تجارية أو تتماشى مع مواقف لنظام (السادات ثم مبارك). وليس هناك ما يمكن أن «يقهر» مبدعا حرا وطيرا طليقا جميلا، مثل جاهين.. مثل أن يشعر بأنه يجبر على شيء، وعلى اتخاذ موقف والتعبير عن توجه ليس مقتنعا به أو لا يستسيغه!
إن هذا، في اعتقادى ويقينى هو ما أودى بصلاح جاهين وقهره، إلى حد الشعور بالاكتئاب والإحباط، الذي مر به، على نحو مضطرد، حتى الرحيل (في ٢١/٤/١٩٨٦).
لقد شعر جاهين بمرارة هائلة، عند نكسة ١٩٦٧، وبحزن لا مزيد عليه، لكنه ذات مرارة وحزن قائد الثورة وكل الصادقين المخلصين للوطنية المصرية وللتوجه الثورى الاجتماعى والعروبى لملحمة ثورة يوليو بقيادة ناصر، لكن هذه المرارة وذلك الحزن، لم يلبثا أن تحولا لدى ناصر قائد الثورة، ولدى جاهين شاعر ورسام الثورة، ولدى الصادقين المخلصين للقيم الثورية الحقة، إلى طاقة عزم وإصرار لا حدود لها، على (أن نعدل المايل).. وعلى تجاوز (هزيمة عسكرية ونكسة سياسية) بكل ما وسع الجهد، كل إنسان في موقعه ومجاله.. وأنا أرجو من كل من يتشكك فيما أقول، أن يرجع إلى ديوان صلاح جاهين (أنغام سبتمبرية)، الذي يضم قصائد كتبها في مرحلة ما بعد ١٩٦٧، خلال حرب الاستنزاف، وأخرى يودع بها القائد عند رحيله في ٢٨ سبتمبر ١٩٧٠.. وفى المقدمة يقول إن عنوان الديوان يرجع فيما يرجع إلى أنه شهر الرحيل الحزين لجمال.. لقد كان جاهين، في منتهى الحزن والمرارة للنكسة، لكن في منتهى الإصرار على الاستمساك بمبادئ هذه الثورة وقائدها، وهو قد عبر مباشرة عن هذا الموقف في رسالة مشهورة أرسلها إلى جريدة «الأهالي»، لكن الجريدة لسبب غامض لم تنشرها حتى الآن!!.. ولقد عثرت عليها ضمن أوراقه (ابنته النقية التي على دربه سامية جاهين)، ونشر نصها لاحقًا في العدد التذكارى المتميز عن جاهين الذي نشرته جريدة «أخبار الأدب» (في ٥/٦/٢٠٠٥).
الخلاصة.. أنه لم يصبه باكتئاب وإحباط: «٥ يونيو ٦٧» (النكسة العارضة.. والهزيمة التي لم نكن نستحقها)، والتي تم تجاوزها بإعادة بناء الجيش ليصبح أفضل مما كان في كل تاريخه، وبحرب الاستنزاف المجيدة وصولًا إلى عبور رمضان العظيم.. وإنما أصابه ذلك بحزن ومرارة ممزوجين بعزم وتصميم على التجاوز، كحال البلد كله، والأمة كلها، في ظل قيادة ناصر، حيث عكس ما يريد البعض أن يشيعه: (ظلت مصر دولة متماسكة.. تزداد قدرات وتنمية، وليست أشلاء دولة ولم تنهار قط، ولم يبدأ السقوط إلا بعد العام الأسود ١٩٧٤).
تبقى ملاحظة.. أن جاهين الذي قهره التدهور العام للبلاد خلال حكمى السادات ومبارك، واضطراره أحيانًا لرسم بعض ما لا يحب.. ظل الشعر عنده أعلى وأعز وأغلى من أن يكتب فيه سطرًا واحدًا، أو كلمة واحدة، أو حرفًا واحدًا فيه أي شيء مما لا يحب أو لا يرتاح إليه.. ومرة أخرى: عودوا إلى كل أشعاره، في مرحلة ما بعد ٦٧ إلى لحظة رحيله (أي ما يقارب العشرين سنة)... سلامًا أيها الساخر العظيم، النبيل الحبيب، عبقرى مصر وأمتها، وشاعر كل ثوراتها من يوليو إلى ما شاء الله: «صلاح جاهين».
مع الشاعر الرائد والرسام المبدع صلاح جاهين.. في ذكراه الثلاثين.
ولعلنا نتناول هنا نقطة أو ملاحظة.. في قصة جاهين الزاخرة وسيرته المتفردة.
الحقيقة أن الذي أتعس جاهين إلى حد الشعور بالاكتئاب والإحباط ليس (نكسة ١٩٦٧)، إنما أن يعيش ويرى بعينيه النكوص والارتداد بعيدًا وبحدة (٣٦٠ درجة) لنظام الحكم بعد عبد الناصر، وتوجهات هذا النظام خاصة ابتداء من ١٩٧٤، وعلى امتداد عهد السادات، وخلال عهد خلفه مبارك حتى عام رحيل جاهين (١٩٨٦).. تلك التوجهات المضادة والمناقضة لأبعد مدى لكل توجهات الوطنية المصرية كما عرفها جاهين، ولكل المبادئ والقيم التي آمن بها خلال عصر يوليو وناصر، وتغنى بها وكتب لها أحسن وأعذب وأصدق الأشعار والأغنيات، وفجأة يجد جاهين كل هذا في لحظة لينهار!!
وكل من يعرفون جاهين عن قرب، يؤكدون أن جاهين كان رأيه في السادات سلبيًا إلى أبعد حد، وله أوصاف وتعبيرات عنه قاسية، ومما زاد من مرارة صلاح جاهين أن عمله ودخله الثابت الأساسى، كان من رسمه الكاريكاتير اليومى بجريدة «الأهرام»، التي تحولت من «أهرام» (وصرح) صديقه الكبير هيكل، إلى «أهرام» نوعية أخرى نقيضة من رؤساء تحرير.
القهر.. هو في كلمة واحدة، ما شعر به جاهين، وهو يضطر إلى أن يقدم رسومًا أحيانًا (ولو قليلًا أو نادرًا)، تجارية أو تتماشى مع مواقف لنظام (السادات ثم مبارك). وليس هناك ما يمكن أن «يقهر» مبدعا حرا وطيرا طليقا جميلا، مثل جاهين.. مثل أن يشعر بأنه يجبر على شيء، وعلى اتخاذ موقف والتعبير عن توجه ليس مقتنعا به أو لا يستسيغه!
إن هذا، في اعتقادى ويقينى هو ما أودى بصلاح جاهين وقهره، إلى حد الشعور بالاكتئاب والإحباط، الذي مر به، على نحو مضطرد، حتى الرحيل (في ٢١/٤/١٩٨٦).
لقد شعر جاهين بمرارة هائلة، عند نكسة ١٩٦٧، وبحزن لا مزيد عليه، لكنه ذات مرارة وحزن قائد الثورة وكل الصادقين المخلصين للوطنية المصرية وللتوجه الثورى الاجتماعى والعروبى لملحمة ثورة يوليو بقيادة ناصر، لكن هذه المرارة وذلك الحزن، لم يلبثا أن تحولا لدى ناصر قائد الثورة، ولدى جاهين شاعر ورسام الثورة، ولدى الصادقين المخلصين للقيم الثورية الحقة، إلى طاقة عزم وإصرار لا حدود لها، على (أن نعدل المايل).. وعلى تجاوز (هزيمة عسكرية ونكسة سياسية) بكل ما وسع الجهد، كل إنسان في موقعه ومجاله.. وأنا أرجو من كل من يتشكك فيما أقول، أن يرجع إلى ديوان صلاح جاهين (أنغام سبتمبرية)، الذي يضم قصائد كتبها في مرحلة ما بعد ١٩٦٧، خلال حرب الاستنزاف، وأخرى يودع بها القائد عند رحيله في ٢٨ سبتمبر ١٩٧٠.. وفى المقدمة يقول إن عنوان الديوان يرجع فيما يرجع إلى أنه شهر الرحيل الحزين لجمال.. لقد كان جاهين، في منتهى الحزن والمرارة للنكسة، لكن في منتهى الإصرار على الاستمساك بمبادئ هذه الثورة وقائدها، وهو قد عبر مباشرة عن هذا الموقف في رسالة مشهورة أرسلها إلى جريدة «الأهالي»، لكن الجريدة لسبب غامض لم تنشرها حتى الآن!!.. ولقد عثرت عليها ضمن أوراقه (ابنته النقية التي على دربه سامية جاهين)، ونشر نصها لاحقًا في العدد التذكارى المتميز عن جاهين الذي نشرته جريدة «أخبار الأدب» (في ٥/٦/٢٠٠٥).
الخلاصة.. أنه لم يصبه باكتئاب وإحباط: «٥ يونيو ٦٧» (النكسة العارضة.. والهزيمة التي لم نكن نستحقها)، والتي تم تجاوزها بإعادة بناء الجيش ليصبح أفضل مما كان في كل تاريخه، وبحرب الاستنزاف المجيدة وصولًا إلى عبور رمضان العظيم.. وإنما أصابه ذلك بحزن ومرارة ممزوجين بعزم وتصميم على التجاوز، كحال البلد كله، والأمة كلها، في ظل قيادة ناصر، حيث عكس ما يريد البعض أن يشيعه: (ظلت مصر دولة متماسكة.. تزداد قدرات وتنمية، وليست أشلاء دولة ولم تنهار قط، ولم يبدأ السقوط إلا بعد العام الأسود ١٩٧٤).
تبقى ملاحظة.. أن جاهين الذي قهره التدهور العام للبلاد خلال حكمى السادات ومبارك، واضطراره أحيانًا لرسم بعض ما لا يحب.. ظل الشعر عنده أعلى وأعز وأغلى من أن يكتب فيه سطرًا واحدًا، أو كلمة واحدة، أو حرفًا واحدًا فيه أي شيء مما لا يحب أو لا يرتاح إليه.. ومرة أخرى: عودوا إلى كل أشعاره، في مرحلة ما بعد ٦٧ إلى لحظة رحيله (أي ما يقارب العشرين سنة)... سلامًا أيها الساخر العظيم، النبيل الحبيب، عبقرى مصر وأمتها، وشاعر كل ثوراتها من يوليو إلى ما شاء الله: «صلاح جاهين».