تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
في بعض ثوابت ممارسة العمل السياسي، كما وصف الشاعر نزار قبانى الحب، (لا توجد منطقة وسطى ما بين الجنة والنارِ).. ولا تحتمل القسمة على أهواء مجموعة وأطماع أخرى.. حتى أن هذا التصور الصبيانى للحقوق السياسية كان أحد الأسباب التي أثارت تساؤلا صادما بعد ثورة ٢٥ يناير عما إذا كانت «هي ثورة» أو «هي فوضى» نتيجة الفهم الخاطئ والممارسات العشوائية التي صدرت عن بعض شرائح المجتمع. تباين الآراء واختلافها نعمة لا يجحدها سوى «عبيد» جماعات السمع والطاعة وتحريم الجدل.. لكن حتى التنوع يبقى داخل إطار ثوابت عامة تشترط الوعى بالمصالح الأمنية والسياسية للوطن حتى عند أعرق الديمقراطيات في العالم وإلاّ لما نجحت أصلا هذه التجربة في البلاد التي نتطلع إلى تطبيق نماذجها في العمل السياسي.
أمام الأزمات التي «وُضِعت» على طريق مصر مؤخرًا في مقابل الأقلام التي أفاضت في سرد السلبيات عند إدارة هذه الأزمات.. لم تساعد أدوات توجيه الرأى العام - للأسف - على جزئية احترام الحدود الفاصلة بين الحق في المعرفة والمكاشفة.. وبين مقتضيات تفرض وجود جانب سرى لبعض القرارات السيادية والأمنية.. فلم يسبق أن عرضت أمريكا أو أي بلد أوروبي للعلن «أحشاء» الخطط والعمليات - منذ لحظة التحضير حتى اكتمال الهدف منها - سواء في المؤسسات الاستخبارية أو وزارات الدفاع.. بل لم تكشف عنها إلا بعد عشرات السنين.
ضمن الأمثلة العديدة الحملة الضخمة من التسريبات المزيفة التي أمد بها البيت الأبيض أهم المؤسسات الصحفية والإعلامية الأمريكية لتأكيد وجود أسلحة دمار شامل في العراق، وقامت بالترويج لها قبل الغزو الأمريكى.. ثم انفجرت فضيحة عرفت باسم «بلايم - جيت» - على وزن فضيحة «ووتر - جيت» التي أطاحت بالرئيس الأمريكى نيكسون - نسبة إلى اسم موظفة وكالة الاستخبارات التي ضحت بها الوكالة في سبيل ترويج الكذبة.. وخطة إنقاذ مجموعة من موظفى السفارة الأمريكية في طهران نجحت في الهروب إلى منزل السفير الكندى بعد اقتحام الإيرانيين للسفارة الأمريكية عام ١٩٧٩.. إذ نسبت وكالة الاستخبارات الأمريكية الفضل في تهريب الموظفين بالكامل إلى كندا ولم تكشف مسئوليتها عن هذه العملية إلا بعد ٢٠ عامًا عن طريق خطة لا تختلف كثيرًا عن الخطة التي وضعتها المخابرات المصرية في عملية تفجير «الحفار» على سواحل أفريقيا اعتمادًا على غطاء تصوير عمل سينمائى، واعترض اللواء كمال حسن على - رئيس جهاز المخابرات آنذاك - على كشف الخطة بعد نجاحها لما تتضمنه من عمل مخابراتى قد يصلح إعادة استخدامه في عمليات مستقبلية.
وجود جبال تيران وصنافير في منطقة عسكرية إستراتيجية - مضيق تيران - يستدعى قدرًا - وليس حجبًا للمعلومة - من السرية عند عرضها على الرأى العام. للأسف تحول قدر المكاشفة - بما لا يمس أمن الوطن - إلى مواد للتسلية.. المتاجرة.. البحث عن زعامة سياسية زائفة.. فرصة لتصفية خلافات شخصية بين الكتاب والإعلاميين.. أصبح الأمن القومى لمصر - وهى في حالة حرب - حقًا مشاعًا لفئات مارست التنقل - بكل صفاقة - من مواقف تبنتها إلى أخرى متناقضة.. تدنى مستوى الحوار إلى مقارنة الجزر بقضية طابا، وهى حق مصرى استولى عليه (عدو تاريخي) ثم استعادته مصر بعد معركة قانونية خاضتها أمام العالم.. أو بقضية مدينتى الشلاتين وحلايب وهما أيضا حق مصرى لن تفرط فيه مهما بلغ نعيق «عصابة البنا».
مقارنة «المهرجان العلني» الذي أقيم حول موضوع الجزر.. بنص القرار العسكري الموجز الذي أخطر وزير الدفاع الأمريكى بموجبه رسميا مصر وإسرائيل أن واشنطن بصدد إعادة تشكيل قواتها المشاركة في بعثة قوات حفظ السلام في سيناء يستدعى حقيقة أن الوعى الأمنى والسياسي عندنا أيضا بحاجة إلى إعادة ترسيم خطوط فاصلة وليس فقط الحدود البحرية بين مصر وجيرانها.
وسط حالة التخبط التي تتأرجح فيها الولاءات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.. قد يبدو إصرار «عصابة البنا» على تقزيم دور مصر منسجمًا مع معتقداتهم.. فالوطن في مذهبهم ليس سوى حفنة تراب رخيص.. والبيع والشراء هو نهجهم الذي ابتدعوه منذ التأسيس بأموال المخابرات البريطانية.. ما لا يبدو مفهومًا انسياق بعض الأصوات الأخرى خلف هذا «الابتذال» في تناول مواقف مصر وفق حسابات البيع والشراء.. كأنما كتب علينا البقاء أسرى واقعية كلمات نجيب محفوظ (آفة حارتنا النسيان) حتى على نطاق التاريخ القريب.. والسؤال الذي يفرض نفسه في المقابل.. هل كانت مصر تتعامل وفق هذه الحسابات الرخيصة وهى تفيض على العالم العربى أنوار علومها وثقافاتها وخبراتها في مختلف المجالات!!.