نعود إلى مطالعة دراسات أخرى قدمت في ندوة «صناعة التطرف.. بحث في تدابير المواجهة الفكرية» التي عقدت في مكتبة الإسكندرية، وننتقل إلى بغداد لنطالع ورقة موجزة جدا للدكتور حميد شهاب أحمد (كلية العلوم السياسية - جامعة بغداد)، ومنذ اللحظة الأولى والسطر الأول نستشعر مدى صعوبة أن يلجأ المفكر الأكاديمى الذي يعيش بالقرب من محاور الإرهاب الداعشى إلى تقديم تحليل مباشر أو حتى غير مباشر لأفكار وجرائم «داعش» و«القاعدة». فالورقة مختصرة، وتكتفى بالحديث المحايد تماما عن أهمية التعليم، فيقول: «لقد ثبت أن التخلف والجهل يؤديان إلى العصبية بمختلف أشكالها سواء كانت عرقية أم دينية أو طائفية. والعصبية تؤدى بدورها إلى التطرف الذي في الأغلب يرفض الرأى أو الطرف الآخر». وهو حتى يقارن وبهدوء شديد بين ما كان أيام صدام وبين ما هو قائم الآن في بغداد فيقول: «لقد ثبت ودلت التجارب على أن التخلف والجهل والعصبية التي تتصف بها أي طبقة سياسية أو نخبة حاكمة هي أسوأ بكثير من الديكتاتورية من حيث الانعكاسات أو المردودات السلبية على المجتمع».
فإن أهم الآليات للقضاء على الآليات المؤدية للتطرف عن طريق العصبية هو التعليم الصحيح البعيد عن العصبية، عبر نشر وتعميم مفاهيم حقوق الإنسان، وأن المواطنين متساوون في الحقوق والوجبات، حيث إن السلطة في بعض الدول في ممارستها لعملها أو تشريعها للقوانين تجعل في ممارساتها هذه أن يكون هنالك مواطنون من الدرجة الأولى، وآخرون من الدرجة الثانية أو الثالثة.
ويجب أن تتضمن مناهجنا التعليمية الأفكار والقيم الإنسانية، وإبراز هذه القيم من خلال القيم المشتركة لجميع الأديان السماوية والدنيوية. كما يجب أن تتضمن هذه المناهج قبول بعضنا للبعض الآخر بغض النظر عن الانتماء الدينى أو الطائفى أو العرقى.. إلخ. ويجب أن ترفع كل المفاهيم الخاطئة من المناهج التعليمية المؤدية إلى التطرف.
ثم إن د. حميد يشترط وبهدوء أيضا أن المناهج التعليمية يجب أن لا تكون كتابتها أو صياغة نصوصها حكرا على طائفة أو مكون معين، مهما بلغت هذه الطائفة أو المكون من قوة في الدولة أو المجتمع، وإنما يجب أن تشكل لجنة أو هيئة من الخبراء المختصين من مختلف مكونات المجتمع، بمعنى أن يكون لأى أقلية دينية أو عرقية مهما صغر حجمها ممثل في هذه اللجنة أو الهيئة.
كما يجب أن تكون المناهج التعليمية وسيلة وخارطة لتحسين الحالة الاقتصادية للفقراء من خلال إبراز القيم الإنسانية العالية لمساعدة الأغنياء للفقراء، وإن أي ترد للحالة الاقتصادية لشريحة معينة من الناس له مردودات عكسية سلبية على الدولة والمجتمع بغنية وفقيره.
ونعذر د. حميد، فالزمان صعب ويكفيه التعليم الصحيح إلى أن تنصلح الأحوال.
ونأتى بعد ذلك إلى مفكر لبنانى لديه القدرة على التعبير الحر والمتحرر، ويتضح ذلك من عنوان ورقته «التطرف والكراهية في التراث الإسلامى». نحن الآن مع د. رشيد الخيون الذي قدم ورقة مطولة. ثم قدمها بموجز يمسك بتلابيب جوهر ما أراد أن يقول ونقرأ.. لم يكن خطاب الكراهية، في المجال الدينى والمذهبى جديدا، إذ يمكن ضبطه ثقافيا منذ ظهور مصطلح الفرقة «الناجية»، مع علمنا أن كل الفرق والمذاهب، أو أغلبها، تتبنى هذا المصطلح، وهو يعبر في الأساس عن «فرقة الله». وقد تبناه الأشاعرة والحنابلة وأهل الاعتزال والشيعة، فجميع هذه الفرق روت حديث الاختلاف المعروف «تفترق أمتى..»، واتفقوا في الجزء الأول من الحديث واختلفوا في «الناجية» من النار ومن تكون.
ولكن عندما تقول: «الناجية» فإن معنى هذا أنهم أهل الحق، وغيرهم أهل الباطل، وهذا يُذَكّرنا بما نقله المؤرخ الأزرقى (توفى ٢٥٠هـ) في كتابه «أخبار مكة»، عندما قيل عن قريش، قبل الإسلام بأنهم «أهل الله»، فحرموا على غيرهم أشياء وأحلوها لأنفسهم، وقد ظهر هذا «المصطلح» أي «أهل الله» عقب فشل حملة أبرهة الحبشى على الكعبة، لذا وجدوا أنفسهم أكثر منزلة وفضلًا على غيرهم عند الله. فإذا مثلت أنت «فرقة الله» أو «أهل الله» لم يبق لغيرك سوى الاحتقار والدونية، فيصبح من واجبك الدينى دعوة الآخرين إلى نبذ مذاهبهم أو فرقهم وإشهار توبتهم، ويدخلون فيما أنت فيه من عقيدة، مع علمنا بأن ذلك لا يقتصر على المسلمين فقط، إنما مارسته بدرجات متفاوتة بقية من يعتقدون ذلك في باقى الأديان، لكنه يشتد كثيرا عندنا إلى درجة إعلان الحرب على من لا يتدين بدينهم. ويمضى د. الخيون متنفسا مناخا بيروتيا منفتحا فيقول: يشتد الإكراه ويبلغ الزبى، عندما تصبح تلك العقيدة سلطة سياسية، بيدها الراية والسيف والمعاش. وعندما تتحول تلك العقيدة الدينية أو المذهب إلى حزب سياسي يقارع من أجل الحاكمية، بفرعيها، السنى «الإخوان» في المناداة «بالحاكمية»، والشيعى الخمينى «ولاية الفقيه»، فهما فكرة واحدة يختلفان بالاسم وبالأسلوب، لكن المعنى واحد، ذلك إنسان متدين سياسي يعتقد أنه يحكم باسم الله، وهذا متدين يحكم باسم الإمام المنتظر، والمنتظر يحكم باسم الله.
ولقد بلغت الكراهية مداها، عندما يقتل الإنسان بسبب دينه أو مذهبه، مثلما حصل للإيزيديين بالموصل، وما حصل من تقاتل بين جماعات شيعية وسنية. ثم وصل الغلو والتطرف بالكراهية حد الزبى عندما يحرق الإنسان المخالف في العقيدة، أي أن يطبق عذاب الله بالنار من قبل البشر على البشر. ولم يأت هذا مفاجأةً إنما أتى من تراكم طويل، عاشته مجتمعاتنا في تبادل النعوت: «روافض»، و«نواصب»، فرقة «ناجية»، أخرى «هالكة» مصيرها النار، تزامنا مع هذا استخدم الطعام في نبذ الآخر المختلف في الدين والمذهب، فلو دققنا التحريمات في الطعام على المختلف أو المنحرف، حسب منطق المفتين، لوجدنا مائدة الطعام تستخدم في النبذ، بل تجاوزت تلك التحريمات القرآن نفسه.
ثم يقول الخيون: أصعب شىء على الإنسان أن تشعره أنه «نجس»، وقد أخذوها قياسا على الآية، التي وردت في سورة التوبة: «إنما المشركون نجس»، فحسب مصطلح الفرقة الناجية يصبح كل هالك غير ناج، حسب منطقهم، نجسا! فكيف سيتعايش الناس في المدن والقرى، وقد اختلط البشر في العواصم كل، وعلى مختلف الأديان والمذاهب. ولا أبالغ إذا قلت نحن أمام تراث ثقيل، تراكمت فتاوى الكراهية فيه من ممارسات وأساليب إلى حد لا يُطاق، فهو خارج عن طباع البشر، إذ يغدو التطرف حالة طبيعية تعيشها سلطات ورعايا في أكثر من بلد. صحيح أننا قد مررنا بفترات من السكون والسبات، نشأت فيها قيم مدنية وابتعدت الكراهية عن مجال التعليم. وذلك أيام كانت ممارستها تحسب حالة شاذة في الطُّرقات والأماكن العامة، لكن ما إن تحقق الظرف لها حتى ظهرت بقوة، وكان ذلك على ما يبدو عام (١٩٧٩)، إذ أتى ثلاثى القوة: الثَّورة الإيرانية، وحرب أفغانستان، وظهور المتطرفين كقوة عنيفة (حركة جهيمان السلفية في السعودية)، وقبلها وجود «السلفية الجهادية» بمصر، لذا يمكن القول إن هذا الثلاثى هو الظرف الذي أنهى السبات لفتاوى الكراهية على أساس الدين والمذهب، ولتظهر «فرقة الله» رافعة السيف على المخالفين والكل يقول أنا «فرقة الله». أما الحلول والمعالجات فكثيرة، والبداية في التعليم ثم التعليم، والشرح يطول، ولنَّا بحشود اللاجئين المسلمين قبل غيرهم، إلى شواطئ عتقت الدين من السياسة والحزبية حُجة.
والبحث طويل.. طويل لكنه يقدم تفصيلات ذاعت في عمق تاريخى وتحليل علمى لتطوير فكرة الفرقة الناجية، لتصبح على مدى التاريخ سلاحا فتاكا يمتشقه المتأسلمون، وكل يدعى أنه الفرقة الناجية، أما الآخرون فنجس ورجس وكفر ثم الذبح. والحقيقة أننى ما أردت من المقارنة بين اختناق المثقف البغدادى وانطلاق المثقف البيروتى إلا التأكيد على أنه بلا حرية، فلا أمل في التجديد أو تجدد أو تأويل.
.. ونواصل.
فإن أهم الآليات للقضاء على الآليات المؤدية للتطرف عن طريق العصبية هو التعليم الصحيح البعيد عن العصبية، عبر نشر وتعميم مفاهيم حقوق الإنسان، وأن المواطنين متساوون في الحقوق والوجبات، حيث إن السلطة في بعض الدول في ممارستها لعملها أو تشريعها للقوانين تجعل في ممارساتها هذه أن يكون هنالك مواطنون من الدرجة الأولى، وآخرون من الدرجة الثانية أو الثالثة.
ويجب أن تتضمن مناهجنا التعليمية الأفكار والقيم الإنسانية، وإبراز هذه القيم من خلال القيم المشتركة لجميع الأديان السماوية والدنيوية. كما يجب أن تتضمن هذه المناهج قبول بعضنا للبعض الآخر بغض النظر عن الانتماء الدينى أو الطائفى أو العرقى.. إلخ. ويجب أن ترفع كل المفاهيم الخاطئة من المناهج التعليمية المؤدية إلى التطرف.
ثم إن د. حميد يشترط وبهدوء أيضا أن المناهج التعليمية يجب أن لا تكون كتابتها أو صياغة نصوصها حكرا على طائفة أو مكون معين، مهما بلغت هذه الطائفة أو المكون من قوة في الدولة أو المجتمع، وإنما يجب أن تشكل لجنة أو هيئة من الخبراء المختصين من مختلف مكونات المجتمع، بمعنى أن يكون لأى أقلية دينية أو عرقية مهما صغر حجمها ممثل في هذه اللجنة أو الهيئة.
كما يجب أن تكون المناهج التعليمية وسيلة وخارطة لتحسين الحالة الاقتصادية للفقراء من خلال إبراز القيم الإنسانية العالية لمساعدة الأغنياء للفقراء، وإن أي ترد للحالة الاقتصادية لشريحة معينة من الناس له مردودات عكسية سلبية على الدولة والمجتمع بغنية وفقيره.
ونعذر د. حميد، فالزمان صعب ويكفيه التعليم الصحيح إلى أن تنصلح الأحوال.
ونأتى بعد ذلك إلى مفكر لبنانى لديه القدرة على التعبير الحر والمتحرر، ويتضح ذلك من عنوان ورقته «التطرف والكراهية في التراث الإسلامى». نحن الآن مع د. رشيد الخيون الذي قدم ورقة مطولة. ثم قدمها بموجز يمسك بتلابيب جوهر ما أراد أن يقول ونقرأ.. لم يكن خطاب الكراهية، في المجال الدينى والمذهبى جديدا، إذ يمكن ضبطه ثقافيا منذ ظهور مصطلح الفرقة «الناجية»، مع علمنا أن كل الفرق والمذاهب، أو أغلبها، تتبنى هذا المصطلح، وهو يعبر في الأساس عن «فرقة الله». وقد تبناه الأشاعرة والحنابلة وأهل الاعتزال والشيعة، فجميع هذه الفرق روت حديث الاختلاف المعروف «تفترق أمتى..»، واتفقوا في الجزء الأول من الحديث واختلفوا في «الناجية» من النار ومن تكون.
ولكن عندما تقول: «الناجية» فإن معنى هذا أنهم أهل الحق، وغيرهم أهل الباطل، وهذا يُذَكّرنا بما نقله المؤرخ الأزرقى (توفى ٢٥٠هـ) في كتابه «أخبار مكة»، عندما قيل عن قريش، قبل الإسلام بأنهم «أهل الله»، فحرموا على غيرهم أشياء وأحلوها لأنفسهم، وقد ظهر هذا «المصطلح» أي «أهل الله» عقب فشل حملة أبرهة الحبشى على الكعبة، لذا وجدوا أنفسهم أكثر منزلة وفضلًا على غيرهم عند الله. فإذا مثلت أنت «فرقة الله» أو «أهل الله» لم يبق لغيرك سوى الاحتقار والدونية، فيصبح من واجبك الدينى دعوة الآخرين إلى نبذ مذاهبهم أو فرقهم وإشهار توبتهم، ويدخلون فيما أنت فيه من عقيدة، مع علمنا بأن ذلك لا يقتصر على المسلمين فقط، إنما مارسته بدرجات متفاوتة بقية من يعتقدون ذلك في باقى الأديان، لكنه يشتد كثيرا عندنا إلى درجة إعلان الحرب على من لا يتدين بدينهم. ويمضى د. الخيون متنفسا مناخا بيروتيا منفتحا فيقول: يشتد الإكراه ويبلغ الزبى، عندما تصبح تلك العقيدة سلطة سياسية، بيدها الراية والسيف والمعاش. وعندما تتحول تلك العقيدة الدينية أو المذهب إلى حزب سياسي يقارع من أجل الحاكمية، بفرعيها، السنى «الإخوان» في المناداة «بالحاكمية»، والشيعى الخمينى «ولاية الفقيه»، فهما فكرة واحدة يختلفان بالاسم وبالأسلوب، لكن المعنى واحد، ذلك إنسان متدين سياسي يعتقد أنه يحكم باسم الله، وهذا متدين يحكم باسم الإمام المنتظر، والمنتظر يحكم باسم الله.
ولقد بلغت الكراهية مداها، عندما يقتل الإنسان بسبب دينه أو مذهبه، مثلما حصل للإيزيديين بالموصل، وما حصل من تقاتل بين جماعات شيعية وسنية. ثم وصل الغلو والتطرف بالكراهية حد الزبى عندما يحرق الإنسان المخالف في العقيدة، أي أن يطبق عذاب الله بالنار من قبل البشر على البشر. ولم يأت هذا مفاجأةً إنما أتى من تراكم طويل، عاشته مجتمعاتنا في تبادل النعوت: «روافض»، و«نواصب»، فرقة «ناجية»، أخرى «هالكة» مصيرها النار، تزامنا مع هذا استخدم الطعام في نبذ الآخر المختلف في الدين والمذهب، فلو دققنا التحريمات في الطعام على المختلف أو المنحرف، حسب منطق المفتين، لوجدنا مائدة الطعام تستخدم في النبذ، بل تجاوزت تلك التحريمات القرآن نفسه.
ثم يقول الخيون: أصعب شىء على الإنسان أن تشعره أنه «نجس»، وقد أخذوها قياسا على الآية، التي وردت في سورة التوبة: «إنما المشركون نجس»، فحسب مصطلح الفرقة الناجية يصبح كل هالك غير ناج، حسب منطقهم، نجسا! فكيف سيتعايش الناس في المدن والقرى، وقد اختلط البشر في العواصم كل، وعلى مختلف الأديان والمذاهب. ولا أبالغ إذا قلت نحن أمام تراث ثقيل، تراكمت فتاوى الكراهية فيه من ممارسات وأساليب إلى حد لا يُطاق، فهو خارج عن طباع البشر، إذ يغدو التطرف حالة طبيعية تعيشها سلطات ورعايا في أكثر من بلد. صحيح أننا قد مررنا بفترات من السكون والسبات، نشأت فيها قيم مدنية وابتعدت الكراهية عن مجال التعليم. وذلك أيام كانت ممارستها تحسب حالة شاذة في الطُّرقات والأماكن العامة، لكن ما إن تحقق الظرف لها حتى ظهرت بقوة، وكان ذلك على ما يبدو عام (١٩٧٩)، إذ أتى ثلاثى القوة: الثَّورة الإيرانية، وحرب أفغانستان، وظهور المتطرفين كقوة عنيفة (حركة جهيمان السلفية في السعودية)، وقبلها وجود «السلفية الجهادية» بمصر، لذا يمكن القول إن هذا الثلاثى هو الظرف الذي أنهى السبات لفتاوى الكراهية على أساس الدين والمذهب، ولتظهر «فرقة الله» رافعة السيف على المخالفين والكل يقول أنا «فرقة الله». أما الحلول والمعالجات فكثيرة، والبداية في التعليم ثم التعليم، والشرح يطول، ولنَّا بحشود اللاجئين المسلمين قبل غيرهم، إلى شواطئ عتقت الدين من السياسة والحزبية حُجة.
والبحث طويل.. طويل لكنه يقدم تفصيلات ذاعت في عمق تاريخى وتحليل علمى لتطوير فكرة الفرقة الناجية، لتصبح على مدى التاريخ سلاحا فتاكا يمتشقه المتأسلمون، وكل يدعى أنه الفرقة الناجية، أما الآخرون فنجس ورجس وكفر ثم الذبح. والحقيقة أننى ما أردت من المقارنة بين اختناق المثقف البغدادى وانطلاق المثقف البيروتى إلا التأكيد على أنه بلا حرية، فلا أمل في التجديد أو تجدد أو تأويل.
.. ونواصل.