تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
يتميز الإنسان بقدرته على التعلم من خبراته ونقل ما تعلمه عبر الأجيال، وذلك هو سر تفوق وتجدد الحضارة الإنسانية. ورغم تلك الحقيقة العلمية الثابتة، فإن من البشر من يستبد بهم الغباء فلا يستوعبون خبراتهم السابقة ولا خبرات من سبقوهم بل ويوَّرثون غباءهم لمن يخلفهم. إنهم الجلادون الذين يحسبون أنه بالتعذيب تتعدل الأفكار وبالقتل تنتهي الفكرة وأن الرعب من التعذيب يدفع بالناس إلى الجحور.
صحيح أن التعذيب خبرة مرعبة لمن يخبرها وهي خبرة أشد ترويعا لمن يسمع عنها. ولكن فلننظر إلى التاريخ البعيد والقريب ليتضح لنا أنه لم يحدث قط أن نجح التعذيب مهما كانت بشاعته في القضاء على فكر إيًّا كان أو حتى إلغاء وجود جريمة أو إيقاف حركة احتجاج. من فلسطين إلى جنوب إفريقيا، ومن الإخوان المسلمين إلى الشيوعيين، ومن أوردي أبوزعبل إلى جوانتنامو إلى معسكرات الأمن المركزي.
بل إن التعذيب قد يحوِّل الضحية إيًّا كانت هويته إلى بطل رغم أنفه، وحتى إذا فقد الضحية حياته تحول إلى أيقونة ومزار. من بن لادن إلى خالد سعيد إلى جيفارا. ولعل جماعة الإخوان المسلمين وقد لاقى أعضاؤها ما لاقوا من تعذيب بشع يدركون أن جانبًا كبيرًا من رصيدهم الشعبي يرجع إلى ذلك التعاطف الطبيعي مع الضحايا والمعذبين.
وفي الحقيقة فإن تاريخنا المعاصر والقديم، على حد سواء، لم يخلُ من ظاهرة تعذيب الخصوم السياسيين، سواء بهدف الحصول على اعترافات، أو بهدف كسر الإرادة وتشويه الشخصية إلى آخره. و لم يعرف تاريخنا الممتد نظاما واحدًا اعترف بممارسة رجاله للتعذيب؛ بل الجميع يتبرأ ويستهجن ويدين، ويعتبر ما جرى مجرد استثناءات فردية. وقد يقوم النظام أحيانا حين تزكم الرائحة الأنوف بالإعلان عن محاسبة مرتكبي تلك الجرائم إداريا. وإذا ما تزايدت الضغوط أصدرت المحاكم أحكاما بالتعويض، حيث تقوم الدولة بدفع تلك التعويضات من أموال دافعي الضرائب. أي أن جانبًا من الأموال التي يتلقاها الضحايا أو أسرهم يكون من جيوبهم هم. لم نسمع أن جلادًا مارس التعذيب حتى القتل تم إعدامه. وطالما تيقن الجلاد أنه في مأمن وأن من يصدر له الأوامر سوف يبعده عن طائلة القصاص فسوف يمضي في ممارساته التي سوف يعتبرها و بحق مجرد وظيفة يتقاضي عليها أجر.
استمر ذلك عبر عصور الحكم الملكي، ثم استمر بعد ثورة يوليو وعبر تغير تحالفاتها وتحولاتها من العسكرية إلى الاشتراكية إلى الانفتاح، واستمر بنفس السيناريو طوال أيام ثورة يناير، واستولى على آنذاك حلم رومانسي ساذج بأن الظاهرة توشك على الانتهاء بتولي السلطة الشرعية المنتخبة وتأسيس الجمهورية الثانية، ولكن يبدو أن شيئًا لم يتغير فيما يتعلق بهذه الظاهرة على الأقل. هل من تفسير لذلك سوى أن السلطات المتتالية رغم تباين انتماءاتها ترى أنها سوف تكون في حاجة لمن يعذب لها خصومها ولا بأس لو قتلهم، وأنه في النهاية لن يقام عليه القصاص بل حتى لن يدفع من أمواله الشخصية مليما. السلطة في بلادنا وعلى مر العصور توقن أن حكمًا بإعدام جلاد واحد كفيل بتمرد الجلادين عن إطاعة الأوامر بممارسة التعذيب والقتل. هل من مكان لحلم رومانسي ساذج جديد؟
لقد أتيح لي أن أشهد موقفًا فريدًا لعله كان في نهاية الستينيات في حفل أقامته إحدى مؤسسات البحث العلمي الكبرى لتكريم بعض الشخصيات ورأيت رجلا يعلو الشيب هامته يسير في تؤدة ليصافح الحاضرين وإذا به حين يمد يده مصافحًا واحدًا من الباحثين، إذ بذلك الباحث يسحب يده واضعا إياها خلف ظهره ويتبين لنا في لحظة أن ذلك الرجل الأشيب كان الجلاد الذي عذب صديقنا المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين، وقد دارت بينهما كلمات قصار كان مضمونها أن الجلاد القديم قد أصبح من الرواد الدائمين لمقام السيدة نفيسة وأنه دائم التوبة والاستغفار، وإذا بصاحبنا يقول له ما معناه إن قبول توبته سيظل معلقًا بين السماء والأرض إلى أن يصفح عنه من ظلمهم وعذبهم، فإنها حقوق العباد لا يجدي في محوها حج ولا صلاة ولا استغفار؛ وارتج الأمر على الجلاد العتيد، ومضى في طريقه إلى أن لقي حتفه في حادث مروع.
لقد بدا لنا آنذاك أن صاحبنا قد دفعه الغضب واستعادة آلام التعذيب إلى قول ما قاله دون سند وإذا بي أقرأ ما روى عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: “,”يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه وأوداجه تشخب دمًا يقول يا رب هذا قتلني حتى يدنيه من العرش“,”، كما قرأت للنووي في شرح مسلم ما يعني أن “,”الْجِهَاد وَالشَّهَادَة وَغَيْرهمَا مِنْ أَعْمَال الْبِرّ لا يُكَفِّر حُقُوق الآدَمِيِّينَ، وَإِنَّمَا يُكَفِّر حُقُوق اللَّه تَعَالَى“,”.