كل مواطن له فى هذا البلد مثل ما لرئيسه.. لو أدرك كلٌ منا معنى ومغزى هذه الحقيقة، قطعا لن يصبح هناك مجال للمزايدات الرخيصة من أحد على أحد، أيضا لا يستطيع أحد أن يشكك فى وطنية الآخر، مهما تعارضت المواقف أو تباينت وجهات النظر، حول أى قضية تخص الدولة بكل مكوناتها «الأرض ـ الشعب ـ المؤسسات».
انطلاقًا من هذه الحقيقة الراسخة فى وجدانى، تفاعلت شأنى شأن كل المصريين على اختلاف شرائحهم الاجتماعية وتوجهاتهم السياسية، مع القضية المثارة حول جزيرتى «تيران وصنافير»، كما أننى تابعت باهتمام ما أحاط بها من ضجيج وصراخ وفتاوى، اختلطت فيها المواقف السياسية بالمسلمات القانونية المتعلقة سواء بالتبعية التاريخية للجزيرتين أو السيادة الواقعية عليهما، أما الدافع وراء التفاعل والاهتمام من جانبى، فهو الوصول لإجابات شافية قاطعة عن تساؤلات أرى أنها ضرورية ومشروعة، «هل هما لمصر.. أم للسعودية؟ ولماذا الإعلان المفاجئ والمتزامن مع زيارة الملك سلمان للقاهرة؟».
الحكومة فى بيانها، قالت إن الجزيرتين تقعان داخل حدود المياه الإقليمية للمملكة العربية السعودية وفق ترسيم الحدود البحرية، وحسبما انتهت إليه الاجتماعات التنسيقية بين البلدين، وهى الاجتماعات التى جرى فيها استعراض المكاتبات الرسمية والأوراق التاريخية.
من الطبيعى أن يعقب مثل هذه التصريحات المفاجئة، ردود فعل غاضبة فى أوساط الرأى العام، الذى يعتبر أن الجزيرتين مصريتان، كما اعتبر البعض أن الأمر برمته من البداية إلى النهاية هو نوع من التدليس والخداع بهدف التنازل عن أرض تخضع للسيادة الوطنية، وهو ما فتح الباب على مصراعيه أمام المتربصين بسلطة الحكم للترويج فى وسائل الإعلام، بأنها صفقة بيع مقابل المساعدات الاقتصادية، خاصة أن الإعلان جاء متزامنا مع توقيع اتفاقيات بين مصر والسعودية لإنشاء مشاريع استثمارية.
هنا علينا أن نتوقف قليلا قبل أن يختلط الحابل بالنابل، وقبل أن تتوه الحقائق الدامغة فى مساحة الجدل المتسعة بفعل الإعلام العشوائى، يمكن لنا جميعا أن نتفهم الخلاف فى وجهات النظر سواء فى هذه القضية أوغيرها من القضايا الشائكة، لكن فى المقابل لا يمكن لأحد مهما بلغت درجة مجافاته للحقيقة ومهما كانت قدرته على تجاوز المنطق، الشك ولو للحظة عابرة فى أن المؤسسات السيادية الوطنية الصلبة «الجيش والمخابرات» يمكن أن تصمت تحت أى سبب أو تتهاون تحت أى ظرف، إذا حاول أحد أو جهة المساس بالسيادة الوطنية، فهذا خط أحمر لا يخضع للمواءمات أو المجاملات، فضلا عن أن رأس الدولة نفسه خرج من رحم هذه المؤسسة التى تحظى بسلطة عاطفية فى أوساط الرأى العام المصرى، وهذا كاف بأن يبعث الاطمئنان فى النفوس بأن ما جرى هو إعادة للحقوق، ويدحض أى محاولة هدفها التشكيك، ورغم هذه القناعة فإن معارضة الرئيس وتوجيه الانتقادات للحكومة أمر مشروع فى هذه القضية التى جرى طرحها بصورة سيئة عبر سيناريو ركيك لا يرقى لمستوى أهميتها.
فى ظل الأجواء الملتبسة والتضارب فى المعلومات حول حقيقة ما جرى بشأن الجزيرتين، لا يمكن بحال من الأحوال إعفاء الحكومة والمستويات الرسمية كافة من تهمة الفشل فى إدارة الأزمة، باعتبارها المسئولة وحدها دون سواها عن إثارة اللغط، وفتح الباب أمام المزايدات ليس فى هذا الملف وحده، إنما فى الكثير من الملفات الأخرى فهى غير قادرة على مواجهة الرأى العام بشفافية من ناحية، فضلا عن أنها لا تتحرك إلا بعد خراب مالطة من ناحية أخرى، والشواهد على ذلك لا تعد ولا تحصى.
مداهمة الحكومة للرأى العام بقضية «تيران وصنافير» من دون تهيئة الأجواء أمامه لتقبل فكرة إعادة الحقوق لأصحابها وطرح الإشكاليات التاريخية، كانت كافية لتوزيع الاتهامات ضدها من البعض، خاصة فى ظل الآراء المتناقضة التى وردت على ألسنة خبراء من العسكريين السابقين وفقهاء فى القانون الدولى وغيرهما من محترفى الضجيج على الفضائيات سواء سياسيين أو مؤرخين.
الرأى العام كان يتوقع من الإعلام رسالة مهنية مسئولة ومتزنة، قادرة على كشف الجوانب الغامضة المتعلقة بالقضية، بعيدا عن الابتذال والمزايدات الرخيصة، إلا أن الأداء الإعلامى جاء مغايرا لكل التوقعات وعكس بجلاء فقدان النخوة الوطنية لدى بعض الإعلاميين، فبرامج «التوك شو» انشغلت بمحاولات إثبات أن الجزيرتين ليستا أرضا مصرية بالصراخ، تبلور هذا الأداء عبر التلويح ببعض المقالات والمراسلات التى تثبت وجهة نظرهم، فخرجت إلينا المضحكات المبكيات، استعان الإخوان بفيديو يتضمن خطابا لعدوهم التاريخى «جمال عبدالناصر» للتدليل على أن الجزيرتين مصريتان، هم تعاملوا مع الفيديو بدون قراءة حقيقية للبعد السياسى وليس القانونى من الخطاب، خاصة أن الكلمات موجهة لإسرائيل، كما استعان بعض الإعلاميين بمقالات كتبها «محمد البرادعى» للتأكيد على أحقية السعودية ودحض الرؤى المعارضة.
فى هذا السياق لا أستطيع أنا أو غيرى، إنكار أن الجدل تجاوز فى شكله ومضمونه كل الحدود المتعارف عليها، فى التعاطى مع القضايا الوطنية، خاصة أن الاتهامات المتبادلة بلغت حد التخوين، الأمر الذى جعل مساحة التشكيك فى الوطنية تتسع بصورة بغيضة وغير مسبوقة، على شبكات التواصل الاجتماعى، فأصبح الإعلام الفضائى والإلكترونى هو الحاكم للمشهد العام فى مصر، وصارت تصرفات المستويات الرسمية فى الدولة مجرد ردود أفعال.
بين الجدل المشحون بالانتماء والغيرة الوطنية من البعض، والتربص المصحوب بالأهواء الذاتية من البعض الآخر، لا يمكن بحال من الأحوال التهوين من حجم تداعيات الأزمة الناتجة عن إعلان الحكومة «تبعية الجزيرتين للمملكة العربية السعودية»، خاصة أن بعض الإعلاميين تعاملوا كالبلطجية مع أصحاب الآراء المعارضة لتوجهاتهم سواء مع أنها مصرية أو مع أنها سعودية. تجلى ذلك بوضوح فى الهجوم الضارى الذى بلغ حد التخوين لكل من يرى وفق تصوراته أن الجزيرتين مصريتان، تم التشكيك فى وطنيتهم وانتمائهم، من دون إدراك لطبيعة الشخصية المصرية الغيورة بالأساس على كل ذرة تراب داخل حدود الوطن، فالحفاظ على الأرض عقيدة محمودة والدفاع عنها فريضة وطنية راسخة فى الجينات المصرية، لذا فإن التشكيك فى وطنية من ينادى بتلك التصورات المشحونة بالمشاعر الوطنية، هو نوع من العبث يخرج عن الإطار الموضوعى لحرية التعبير ويمتد إلى التفتيش فى الضمائر، خاصة أن الذين يوجهون الاتهامات يسيئون بدفاعهم المستميت لنظام الحكم جراء افتقادهم للموضوعية.