لا يختلف اثنان على أن وزارة الداخلية المصرية كانت وما زالت من أهم أهداف مخطط هدم مؤسسات الدولة، الذى بدأ بتمهيد الهجمة على مصر عام ٢٠٠٥، حتى وصلت ذروتها فى عملية يناير ٢٠١١، ثم فى كل مرة تتجدد الحملة على مصر يبرز الهجوم على الداخلية كواحد من أهم أهداف ضرب مصر.
وقد خلقت هذه الهجمات عند النظام عامة، والداخلية خاصة، حالة من رغبة استعدال وسائل الأمن فى العمل، فضلًا عن السلوك الذى أصبح سائدًا لدى كل أجهزة الدولة والمتمثل فى محاولة استرضاء أى تجمع للاحتجاج وأى من أصحاب الصوت العالى، وكذلك كل من له صلة أو قادر على الوصول بالمنظمات الدولية أو إلى السفارات الأجنبية.
على أى حال فقد نجح الأمن إلى حد كبير فى تطوير وسائله وانتهاج أساليب تراعى العصرية وتتلاءم مع المطاليب والمعايير الدولية لحقوق الإنسان، ولكن الحملة ظلت تتجدد فى كل مناسبة، وبلا مناسبة، وعلى نحو داخله تعمد «لابتزاز» جهاز الأمن المصرى وإرباك عمله، والنيل من روح أفراده المعنوية، بل وتعريضهم لردع معنوى دائم يشعرهم بأن مكانهم سيكون وراء القضبان إذا ما أفرطوا فى أداء واجبهم.
وأظن أن السبب الرئيسى فى المشكلة التى أصبحت الداخلية تواجهها الآن فى ظل استمرار الهجوم والتهجم علينا هو الخلط بين «الأمن السياسى» و«الأمن الخدمى والجنائى».
إذ يتم تحميل الأمن السياسى كل عبء الأخطاء التى ربما تحدث من خلال التعامل مع الجمهور فى الأمن الخدمى، وبخاصة أن ذلك الجمهور فى جزء كبير جدًا منه جاهل ولا يمتثل للأوامر أو النظام.
كما يتم إضافة عبء آخر على الأمن السياسى من خلال مواجهات الأمن الجنائى والقتلة والمجرمين ومثيرى الفوضى واللصوص وغيرهم من المعتدين على سلامة المرافق العامة وممارسى البلطجة.
إذ ربما يحدث فى مواجهة مثل تلك الفئات التى يغمرها الجهل وعلى فهم معنى القانون أو وجوبية تنفيذه، لون من الصدام واستيلاد الكراهية لجهاز الشرطة بأكمله.
وعلى الجانب الآخر فإن الالتباسات التى تحيط ممارسة الأمن السياسى لعمله، بالنظر إلى طبيعة ونوعية القضايا التى يتعرض لها، ربما تورث الكتلة العريضة من الرأى العام الجاهل محدود المعرفة بالسياسة أو قضاياها، قدرًا لا بأس به من الكراهية لجهاز الشرطة، وبخاصة فى غياب إعلام يستطيع بضمير أن يخلق تيارا من الوعى لدى الجمهور بالأسباب التى تدفع الشرطة مثلا إلى إلقاء القبض على متهم فى قضايا الإرهاب أو الانضمام إلى تنظيم محظور.
أجهزة الإعلام والتعليم والثقافة فى مصر لم تنجح فى توصيل ضرورة ومعنى القانون إلى الناس، ولم تخلق لديهم فهما لإلزامات ذلك القانون وبالذات فى عملية إنفاذه، ومن ثم فإن المواطن ينظر للشرطة على أنها «ظالمة» وأنها تقهر الناس.
لا بل إن الناس يخلطون بين مفهوم «الشرطة» ومفهوم «الحكومة» فيستعملون كلمة: الحكومة فى الحديث عن الشرطة، وبما يُحمل جهاز الشرطة أخطاء وخطايا الجهاز الحكومى كله.
ولا ينفع فى هذا الإطار المحاولات المضحكة التى تبذلها الداخلية أحيانا لاسترضاء الشعب بتوزيع الورد والحلوى والأعلام على الناس فى الشوارع أو إشارات المرور، لأن ثقافة عميقة الجذور تأصلت فى نفوس المصريين نتيجة عدم فهم معنى «الأمن» أو «القانون» أو الفارق بين «الشرطة» و«الحكومة» وهذه الثقافة ترتبط بمعنى القهر فيما هى تعنى أدوات «الضبط المادى للسلطة» وأدوات ذلك الضبط المادى معروفة فى العالم كله وهى «الجيش والمخابرات والإعلام ثم الشرطة».
وبناء عليه..
فإننى أرى ضرورة التحرك على صعيدين «سياسى» و«إعلامى» وبدء حملة توعية كبرى بمعنى الأمن والضغط فى تلك الحملة على الفوارق بين «الشرطة» و«الحكومة».
ثم يتم فض التشابكات بين الأمن «الجنائى والخدمى» و«الأمن السياسى» بحيث لا يتحمل أحدهما عبء الآخر، وعلى سبيل المثال فإن بعض حالات التجاوزات التى ارتكبها أمناء الشرطة مؤخرًا تم النظر إليها بوصفها موضوع «سياسى» بامتياز، وهو ما ليس صحيحًا، لا بل إن تصعيدها إلى منظمات حقوقية محلية ودولية بوصفها موضوعا سياسيا واستخدمتها صحافة مغرضة ووسائل إعلام تسعى للإثارة والتحريض على الدولة، باعتبارها أيضا موضوعا سياسيا.
الفصل بين «الأمن السياسى» و«الأمن الجنائى والخدمى» يختلف تماما عن وجود «الخدمة السرية» و«الأمن القومى» و«هيئة المعلومات» فى المخابرات العامة، فالمخابرات لا تتعامل مع الجمهور، وهى عادة تستخدم أجهزة أخرى كقفازات فى يديها دون الظهور فى الصورة على أى نحو إلا فى قضايا بعينها.
حالة الداخلية كما قلت مختلفة تماما، وفصل جهاز الأمن السياسى فيها ليصبح وزارة قائمة بذاتها، يحمى ويصون ذلك الجهاز من أن يكون عرضة للحديث العام أو يعود احتكاك الناس به على نحو لا يلائم وظيفته أو طبيعته.
وفى بريطانيا على سبيل المثال توجد وزارة داخلية تتولاها تيريز ماى وهى تتولى الإدارة السياسية لملفات مثل الإرهاب وتقديم قوانينه للبرلمان ولكن الذى يتعامل فنيا مع القضية هو المخابرات، ثم أن هناك ثقافة عامة راسخة جدا تجعل الرأى العام يعرف الفوارق بين جهاز «m١٥» و«m١٦» والداخلية و«سكوتلانديارد» و«جهاز مراقبة الاتصالات» أى أن تلك الأجهزة تعمل بطريقة منفصلة ولكن الإدارة السياسية لها فى يد الداخلية.
إذن لا يمكن محاسبة الكونستابلات من الخيالة الإنجليز فى اضطرابات بريكستون مثلا التى ارتكبوا فيها انتهاكات كبرى ضد الجمهور، باعتبار أن ذلك موضوع سياسى أو يرتبط بمسئولية أحد أجهزة المخابرات الداخلية.
وهكذا فإن انفصال جهاز الأمن السياسى عن الداخلية ليصبح وزارة منفصلة هو أقرب لطبيعة عمل ذلك الجهاز ويؤدى إلى رفع عبء كبير عنه لا ينبغى عليه أن يحمله.