لا نزال
نواصل رحلتنا مع الطفل "سيد قطب إبراهيم الشاذلي" وهو يحكي لنا عن طفولته،
ما نستطيع معه أن نستخلص منه أسباب ما ألم به في مراهقته، وكهولته، بل وشيخوخته، كي
نستطيع بعد ذلك أن نفهم ما كتبه فهمًا دقيقًا ونحكم عليه حكمًا يليق به!
حيث يقول "طفل القرية.. سيد قطب" ما نصه: منذ ذلك الحين عادت المدرسة في نفسه(أي في نفس الطفل!" مكانًا
مقدسًا كمحاريب الصلاة! وارتفعت بما فيها، ومن فيها في عينه درجات، وآلى على نفسه
(أي أخذ عهدًا عليها) أن يكون داعية المدرسة المكافح ضد الكتاب! (وهنا يبدو أن
"الدنكيشوتية! والادعاء بمحاربة طواحين الهواء قديمة جدًا عند "سيد قطب"، فها هو وفي حين كونه لا يزال بعدُ طفلًا في السابعة من
عمره، يخترع معركة وهمية ليس لها أي أثر خارج حدود عقله، ثم يدعي لنفسه البطولة والفروسية،
ثم ينتصر في الأخير! وكل ذلك ليس إلا في سمادير أحلامه، وتخاريف أوهامه!! وهو ما
ظل عليه "سيد قطب" بعد أن كبر، فكان يحارب طواحين الهواء، ويدعي لنفسه
البطولات الزائفة والأمجاد المزيفة، على ما سيأتي بيانه في مواضعه، إن شاء الله
تعالى).
ثم يضيف فيقول: كانت حجة الكتّاب الكبرى أنه (أي أن أرباب الكتّاب
كان يفضلونه على المدرسة لأنه) يُعنى بتحفيظ القرآن، بينما المدرسة تهمله، ولا
تستطيع أن تخرج تلميذًا واحدًا يحفظه!
إذن، فليوجه همه إلى حفظ القرآن حتى يهدم هذه الحجة الكبرى! (عاودته
حالة المبالغة المرضية في استعمال الألفاظ الضخمة في غير موضعها مرة أخرى!).
وإنه ليرهق نفسه وصحته! المرهقة!، (ولم تزل المبالغات هي ديدنه وأسلوبه
حتى هلك!) ويسهر إلى منتصف الليل ليعيد كل ليلة جميع ما سبق له حفظه من القرآن وذلك
يجانب الدروس الأخرى.
فما يكتمل العام حتى يكون حفظ ثلث القرآن، حفظًا جيدًا يباهي به من
يتحداه.
ثم يؤلف جبهة من تلاميذ المدرسة ضد أولاد الكتاتيب (وهنا يبدو أن
تشكيل العصابات والجماعات كان يسري في دمه منذ صغره!)، جبهة للمفاخرة بكل شيء، وبحفظ
القرآن أيضًا، وآية ذلك هي: النقاوة، ومعناها أن "ينقي"، أي ينتقي بعض
التلاميذ لبعض التلاميذ آيات وسور من القرآن للاختبار في حفظها، وذلك على سبيل
المباراة بين هؤلاء، وهؤلاء، وكثيرًا ما فازت المدرسة، فأدركته النشوة الجارفة
بهذا الانتصار.
وكان من مفاخر المدرسة أشياءٌ وأشياء، بناء مدرستهم الأنيق، بجانب
بناء الكتّاب القديم القذر! وفناؤها الفسيح، والشجرتان الظليلتان به، وزهرتهما
الجميلة التي لا نظير لها في القرية كلها : زهرة "ذقن الباش"، ذات
الرائحة العطرة، و"المزيرة، وهي صوان من الخشب المتشابك بداخله
"زيران" كبيران على حمالتين من الحديد، وتحتهما جردلان نظيفان لتلقي الماء
المقطر الذي يشرب منه "الأفنديات"- وهم معلمو المدرسة وناظرها- وكان التلاميذ، وأهل البلد يلقبونهم بهذا اللقب
تمييزًا لهم عن مشايخ القرية، وهم حفظة القرآن، وكذلك بسبب ملابسهم النظيفة، ومرتباتهم
التي تصرف من مجلس المديرية، لا من "خميس" الأولاد الذي يؤدونه لهم كل
خميس!
ثم المقاعد والقماطر، وبخاصة الأدوات التي تصرف لهم كل عام، والكراسات
الأربع والأقلام الأربعة كذلك من البوص الأحمر! بينما أولاد الكتاب يكتبون في
ألواح الصفيح بأقلام الغاب البيضاء .
ثم النشاف الذي يجفف الكراريس، بينما يستخدم أبناء الكتاب التراب في
تجفيف ألواحهم! والريق في محوها، مع طرف الملابس، أو اللسان في بعض الأحيان!
و أشياء أخرى كثيرة هي موضع فخارهم، ولكن شيئًا منها لا يبلغ ما تبلغه
اللافتة التي تعلو باب المدرسة، وهي الطابع الفريد للمدرسة الذي لا نظير له في
القرية كلها، والذي نقل عن البندر نقلًا!
و أما قصة هذه اللافتة فترجع في الحقيقة إلى العام التالي حينما انتقل
الطفل (سيد قطب) إلى السنة الثالثة، فقد توافر للمجلس عدد من المتخرجين في مدارس
المعلمين بنظامها الجديد –إذ ذاك-، فعينت المدرسة اثنين منهم، أحدهما ناظر بدل
الناظر القديم، الذي نقل معلمًا في بلد أخرى، والآخر مدرس، فلم يبق بالمدرسة إلا
عريف واحد، نقل هو الآخر بعد شهر من السنة، وبذلك ارتقت المدرسة درجة أخرى، واستكملت
جميع خصائصها النظامية، وصفي التلاميذ الكبار، أو بتعبير أصح الرجال ذوو الشوارب، وألغيت
الفرقة التحضيرية، وقسمت المدرسة إلى أربع فرق بنظام معقول.
وبدا للناظر الجديد أن يدخل على المدرسة تجديدًا عظيمًا، فاقترح أن
تعلق عليها لافتة باسمها على النحو المتبع في مدارس البندر، وعرض على التلاميذ أن
يساهموا في شراء هذه اللافتة بما يستطيعون، بعد أن أعلن أنها ستتكلف خمسة وعشرين
قرشًا، وتحمس صاحبنا (يقصد نفسه) للمشروع، فهذه اللافتة ستكون مفخرة جديدة يضمها
إلى مفاخر المدرسة، حينما يباهي بها تلاميذ الكتاب!
وحينما بدأ بعض التلاميذ يحضر مليمًا أو مليمين، وأبناء الأثرياء
يحضرون نصف قرش، وفي النادر القرش، كان هو يبذل جهده في المنزل ليحضر خمسين مليمًا!
وحينما تمت كتابة اللافتة في البندر، وعلقت على باب المدرسة كاد يطير
فرحًا!
و في نهاية السنة الرابعة كان يجيد حفظ القرآن، وكانت هذه معجزة المدرسة
الأولى (وهنا تلبسته حالة المبالغة مرة أخرى!)، التي تخرس ألسنة الدعاة الكذبة من
أصحاب الكتاتيب وصبيانها! (لا حظ هنا –أيضًا- أنه قسم عالمه الصغير إلى قسمين
كبيرين، قسم فيه هو وهو جانب الحق والصدق، وقسم آخر فيه الدعاة الكذبة وفيه الشر والضلال،
وهو بذاته عين ما قامت عليه نظرية "سيد قطب" فيما بعد في كتبه التكفيرية،
ولكن على أساس تقسيم المجتمعات الإنسانية كلها إلى معسكرين وفسطاطين كبيرين، فسطاط
للإيمان وآخر للكفر!)
ثم يضيف فيقول : ولكنه، وقد أتم الدراسة بالمدرسة كان لا يزال طفلًا
في نحو العاشرة، وكان له زملاء قد أتموا من قبل حفظ القرآن بالكتاب، ثم دخلوا
المدرسة، فلما بلغوا السنة الرابعة كان (لعله يقصد: كانت)
سنهم قد تجاوزت الخامسة عشرة! وهؤلاء حدث لهم حدثٌ، ذكر "طفل القرية"
أنه اهتزت له القرية اهتزازًا!
فيا تُرى ما هو هذا الحدث، سوف نعرفه -إن شاء الله تعالى- في المقال
القادم .
وفي المقال القادم للحديث بقية.. إن شاء ربُّ البرية.
آراء حرة
سيد قطب.. طفلٌ من القرية! (9)
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق