الأربعاء 04 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

سيد قطب.. طفلٌ من القرية (8)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
وقفنا في مقال الأمس عند قوله: ولم يكن بٌّد من أن ينفذ رأي أبيه، وأن يتوجه منذ الصباح إلى الكُتاب.
واليوم نكمل ما وقفنا عنده بالأمس حيث يقول "طفل القرية.. سيد قطب" ما نصه: لا يذكر أن قلبه الصغير قد عرف من قبل مثل الهم الذي عرفه ذلك اليوم، ولا أن صدره ضاق وحرج واكتأب كاليوم أيضًا!(عاد مرة أخرى إلى المبالغات في حديثه، إلى أبعد مدى، فكيف طفل في السادسة من عمره أن يعرف أحاسيس ومشاعر معقدة للغاية، كضيق الصدر والحرج، بل والاكتئاب؟!).
يقول: لقد استقبله سيدنا "الشيخ أحمد" بالحفاوة والبِشر والبشاشة، ولقد أجلسه بجواره على الفَرْوة (الفروة: هي جلد الخروف أو الماعز بعد سلخه، وهي تستخدم للجلوس عليها كنوع من التكريم للجالس والتمييز له، وصونًا لملابسه عن الأرض) التي يجلس هو عليها، في حين جلس صبيان الكُتاب على الحَصِيرة (والحصيرة: فراش قديم يعرفه أهل الريف في مصر، ويصنع - عادة - يدويًا من الخوص) في وسطه، أو على المَصْطَبة (المصطبة: هي بناء قصير يرتفع عن الأرض بجوار الحائط ما يقرب نصف المتر وعرضه يقترب أيضًا من نصف المتر) الدائرة بجانب الجدران.
ولكن هذا كله لم يفتح نفسه!! لشيء، فلقد اعتاد أن يستقبل في الصباح ذلك البناء النظيف، ذات (لعله يقصد ذي!) الحجرات المطلية بالجير، والفناء المفروش بالرمل، وأن يجلس على مقاعد المدرسة، وأمامه قمطرة (وهي ما تصان فيه الكتب)، وفيه الكتب والأدوات، والكراسات، ولوحة الإردوازي الأنيقة، أما هنا في الكُتّاب، فلا مقاعد، ولا قماطر، ولا حجرات، ولا جرس، ولا صفوف، ولا كُتب وأدوات ولا كراسات!
وإنما لوح من الصفيح، يكتب فيه التلاميذ بحبرٍ مصنوع من زهرة الغسيل أو من "هِباب"! المصابيح (وهي المادة الناتجة عن احتراق الوقود في المصباح)، أو مواد تشبهها، وهم يحملون الدواة والقلم في أيديهم أينما ذهبوا، فإذا "سمَّع" لهم "سيدنا" الألواح، ووجدهم قد حفظوا، أذن لهم بمسحها، وكتابة آيات أخرى من القرآن فيها.
أما طريقة مسحها فهي طريقة قذرة!، إذ يبصق التلاميذ فيها ثم يدعكونها! بأيديهم، ويمسحونها بطرف ثيابهم، لذلك تبدو ثيابهم ملوثة بالحبر.
ثم.. لقد هاله أن "سيدنا" حين يُصحح هذه الألواح لهم بالمداد الأحمر، ويلاحظ فيما كتبوا غلطًا، فإنه يبادر بلحس الكلمات المغلوطة بلسانه! ومسحها بطرف كفه، ليكتب بدلًا منها الكلمات الصحيحة، ثم إذا بدا لتلميذ أن يستأذن لقضاء حاجة خارج الكُتّاب، فإنه لا يرفع إصبعه، كما يرفع التلاميذ في المدرسة أصابعهم، بل يروح يفرقع بإصبعه السبابة فوق أصابعه الأخرى وهو ينادي: "سيدنا، سيدنا"!
فإذا انتبه إليه "سيدنا" جمع أصابعه، وقال له: "دستور"!
فإذا أذن له خرج، وقد لا يعود أبدًا بقية اليوم!
ثم يضيف فيقول: على أية حال لقد امتلأت نفسه اشمئزازًا من كل ما حوله، وأحس هنالك بغربة مريرة ذليلة! (عاد كعادته هنا إلى المبالغة الشديدة في استخدام الألفاظ الكبيرة في غير مكانها، وتضخيم الأمور وتحميلها أكثر مما تتحمله بكثير! وهي عادة ظلت مصاحبة لصاحبنا، طوال حياته، وأثرت أشد الأثر خاصة في كتاباته الإسلامية، وكان لها أسوأ التأثير على أتباعه وعلى قراء ما كان يكتبه من أرباب الإخوان والجماعات الدينية الإرهابية الأخرى، كما سيأتي بيانه في موضعه، إن شاء الله).
وحينما عاد إلى المنزل كان قد صمم على ألا يعود أبدًا إلى هذا المكان القذر! مهما أصابه من التهديد والتبكيت، وأسرَّ بهذه الرغبة المُلحة إلى أمه، فاغرورقت عيناها بالدموع .
وفي الصباح كان والده، وكان "سيدنا" كذلك يعتقدان أنه ذاهب إلى الكتّاب، ولكنه أخذ طريقه خُفية إلى المدرسة، مهرولًا كأنما يخشى أحدًا أن يتعقبه، فوصل إليها مبكرًا جدًا، فلم يجد هنالك أحدًا والفراش!
كان بابها لا يزال مغلقًا، فآثر أن يجلس أمامه، وأن يركن! بظهره إليه، كأنما يأوي إلى مكان حبيب وحصن حصين عصيب.
وتكاثر التلاميذ بعد قليل، وسأله بعضهم لماذا غاب بالأمس، فقد كان هذا هو اليوم الوحيد الذي غاب فيه منذ أن جاء إلى المدرسة، وراح يشرح لهم كيف ذهب إلى الكتّاب، وكيف وجده قذرًا لا يطاق، وكيف يختلف في كل شيء عن مدرستهم الجميلة وفجأة انقلب داعية إلى المدرسة ضد الكتّاب (وهنا عادة المبالغة في استخدام الألفاظ مرة أخرى)، وهو لا يدري ما الدعاية والترويج! وحينما سأله الناظر عن سر غيبته الشاذة، راح يقص عليه والدموع تنهمر من عينيه بسبب ظروف هذه المأساة، وطمأنه الناظر على مُقامه بالمدرسة، ووعده بأنه سيذهب اليوم إلى والده لإقناعه بالبقاء، واستراح كل الراحة، ووجد نفسه يتنفس في البيئة الطبيعية التي يألفها!!
وحينما حان موعد الانصراف ذهب إلى الناظر ليذكره بوعده، فأبلغه أنه قادم على إثره، وهكذا كان!
فقد حضر إلى الدار مع زميليه، وأقنعوا والده بأن ابنه خسارة في الكتّاب!! وأنه تلميذ نبيه متفوق، وأنهم ينتظرون له مستقبلًا طيبًا في المدرسة! (وهنا بدا الكبر والتعالي واضحًا، وكذلك التشبع بما لم يعط متمثلًا بمدح النفس وتضخيمها أو على الأقل نقل هذا المدح وتوثيقه!).
ونظرًا لأنهم ليسوا من أهل البلدة، بل ضيوف (لعله قصد: ضيوفًا)، فقد اضطر (يقصد والده) إلى قبول رجائهم، واعتذر لسيدنا، بهذا العذر حينما عاود المجيء، فانصرف وهو يحوقل (أي يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله) ويستعيذ من رسل الكفر والضلال! (ولعل هذا كان بداية سبيل التكفير في عقل وقلب "سيد قطب" والذي سوف يكون له فيه قصب السبق بما لا يقاس فيما سيأتي من حياته! على ما سيأتي ذكره في مكانه إن شاء الله تعالى).
وفي المقال القادم للحديث بقية.. إن شاء ربُّ البرية.