ونواصل كواجب قومى وضرورى متابعة أوراق ندوة مكتبة الإسكندرية التى نعتبرها كنزا مصريا نتعلم منه ونهديه لكل العاملين فى العالم على مواجهة الإرهاب المتأسلم. ففى أوراق ندوة «صناعة التطرف – قراءة فى تدابير المواجهة الفكرية» نجد دراسة مهمة عنوانها «الحاكمية والاعتدال الإسلامي- رؤية نقدية- للدكتور محمد كمال إمام الاستاذ بكلية حقوق جامعة الإسكندرية. ونطالع من السطر الأول للبحث تحذيرا صارما يقول «من الخطأ أن تقرأ الأفكار وكأنها مجرد ردود أفعال فيتم تحليل الأقوال ونتجاهل تأصيل الأحوال. ولعل الحاكمية – تاريخا ومصطلحا ونسقا- هى الأولى بدراستها بعيدا عن المأزق المنهجى الذى يحبسها فى فكرة مأزومة قبل أن نرتاد الآفاق التى حركتها من رحم التاريخ النائم إلى جدل الحاضر المتلاحم» ثم يقول «قيل عن القرن السابع عشر الميلادى فى تاريخ الفكر الأوروبى أنه عصر الإلحاد، وبذات المنهج يمكننا أن نسمى القرن التاسع عشر فى تاريخ الفكر الإسلامى بأنه عصر الاضطراب فى كل شيء، فى الدولة وسلطاتها، وفى المجتمع وتنظيماته، وفى الإنسان التائه بين الواقع الرديء والمأمول الذى يبدو وكأنه ظلمات بعضها فوق بعض» ثم «كانت الدولة العثمانية التى تلتقى فى ادعائها أنها دولة الخلافة، واختزانها هموم الأمة وطموحاتها، وكان الإسلام مصدر شرعيتها وأساس ترابط شعوبها المقترض رغم تعدد انتماءاتهم ولغاتهم وتباين تصوراتهم للمستقبل. وكانت الدول الأوربية ترى أن انكسار هذه الدولة – فكرا وسياسة- هو الطريق لإفساح سبيل السيطرة على هذه المنطقة من العالم وأنه من الضرورى تكسير عظام هذه الدولة وتدمير بيئتها الثقافية والسياسية والاجتماعية. وكانت فكرة الخلافة هى القلب الذى يتعين إيقافه عن العمل، فبقاء الخلافة يعنى تراجع المشروع الغربى عن تحقيق غاياته. ولم تكن الفكرة دينية وإن أفرزت تعصبا دينيا، وكان الدين مجرد قبعة تستدعى فى أجواء الصراع». ثم يأتى بنا د. إمام إلى النصف الثانى من القرن ١٩ وعن وجود ثقوب فى نسيج الخلافة تولد عنها اتجاهان: اتجاه يرى أن الخلافة عثمانية. واتجاه ثان يرى أن تكون الخلافة عربية». ثم هو يقفز بنا مرة أخرى إلى كتاب «الخلافة فى الإسلام» للشيخ أحمد الرجيبى (١٩١٥) ونقيضه «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ على عبدالرازق (١٩٢٤).. ويضيف «وفى ذات السياق شهدت المنطقة أفكارا وخلافات حول العلمانية والدولة المدنية وضرورة «التمدن». وهكذا كانت الساحة الإسلامية فى الربع الأول من القرن العشرين تعانى من الاستعمار والطغيان ومن صراعات حول الدستور وأسلوب الحكم وحقوق المرأة». وقد حاولنا جاهدين تلخيص الدراسة الأكاديمية المتقنة للدكتور إمام والتى حذر فيها أكثر من مرة من منهج ينصب نفسه حكما على الدين والعقل والمجتمع. لكن الدكتور إمام رغم أكاديمية الفكر والكتابة يستخدم منهجا حادا ولا يقبل المواءمات ولا الحلول المرنة التى تمليها طبيعة مجتمعاتنا وفهمها للدين وغاياته وللتطور وضروراته فقول «وفى النصف الثانى من القرن العشرين أبتلى الإسلام باتجاهين كلاهما بعيد عن حقيقة الإسلام.. اتجاه علمانى غايته إقصاء الإسلام حيث لا مكان له فى الحياة العامة والمجتمع، واتجاه شمولى دعواه احتكار للإسلام تحت مسمى الحاكمية لله والتى أصبحت لدى تيارات التشدد والغلو من مصطلح له مفاهيمه ومرجعياته إلى (شرك) غايته السلطان». وتراجعت أسس الوسطية وتكريم الإنسان إلى قراءات للقرآن لحمتها القتال المستمر والعدوان السافر على النفس والأموال والأعراض، وقسمه العالم إلى محورين محور الخير ومحور الشر. وهكذا يقتادنا د. إمام إلى محاولة قد يخافها البعض لكنها تستحق الدراسة والتأمل، فهو يقول «والمنهجية التى نعتمدها ترى أن العلاقة بين الدين والدولة فى العالم الإسلامى لم تكن مجرد هم أساسى للمشروع التحديثى العربي.. بل هى علاقة مستمرة تحكمها ثقافة المغايرة عندما تحاول تهذيب موقفها المعارض. ولم تكن ثنائية التوفيق بين العقل والنقل عند رواد الفكر الفلسفى الإسلامى إلا مرحلة تاريخية لموقف العقل الإسلامى من محاولات «أنسنة القرآن» (وأنا لا أعرف قصده من أنسنة» وربما يقصد «تأويل» النص القرآني) و«أدلجة» الحديث النبوى (وأيضا لا أعرف القصد من «أدلجة» وربما أى اشتقاق صعب من كلمة «أيديولوجيا» فتعنى أدلجة الحديث إخضاع الأحاديث النبوية لأعمال العقل والفكر).. ثم يقول إن «أدلجة الإسلام، على يد المشروع السياسى لاحقا جاءت متسقة مع مشروع متعثر لدولة حداثة فاشلة جعلت من سياسات الهوية خيارا جذابا ومقبولا أمام أخطار التغريب الحضارى الحقيقية والمتوهمة. وبعد ذلك استعرض د. إمام عديدا من آراء المفكرين الذين بحثوا فى الموقف من الحاكمية سواء كعقلانيين أو علمانيين أو إسلاميين فهو يمتد بنا من أفكار رضوان السيد ومحمد شحرور أو أبوالقاسم حاج حمد معترضا على أطروحاتهم ثم يأتى إلى الحاكمية من منظور التطرف الدينى سواء عند أبوالأعلى المودودى أو سيد قطب. وهو يرى أن «حاكمية المودودى لا تعدو كونها رؤية سلمية من أجل إسلامية باكستان ويقول «وأظنه لن يكون راضيا عما آلت إليه فى الخطاب الحركى المعاصر لتصبح مولدة للعنف والكراهية سواء فى الخطاب أو فى الأفعال الإسلامية. ثم يحلل موقف سيد قطب من الحاكمية ويعلق عليها قائلا «إنها نظرية مغلقة سجن فيها الإسلام وحبسه عن معتنقيه. ثم يختتم د. إمام دراسته الأكاديمية مؤكدا «فى النهاية أقول إن الاعتدال السياسى مسألة تاريخية لها حضور مستمر فى الوعى الإسلامي» وهو يدعو إلى رفض كل من نموذجى التطرف العلمانى والتطرف الدينى ذلك أن روح الديمقراطية ترفض الإكراه السياسى وتدين الإقصاء الفكري»، ثم يلخص كل فكرته التى ساقها فى ٢٤ صفحة مفعمة بالجهد الفكرى المتميز فى عبارة لغاندى تقول «لا أريد لبيتى أن يكون مغلقا من جميع الجهات والنوافذ، بل أريد أن تهب على بيتى ثقافات كل الأمم بكل ما أمكن من حرية، ولكننى أنكر عليها أن تقتلعنى من جذوري».
شكرا د. محمد كمال إمام.. وألف شكر لمكتبة الإسكندرية التى تنجح دوما فى غرس حدائق من أزهار مختلفة الألوان والأنواع.
شكرا د. محمد كمال إمام.. وألف شكر لمكتبة الإسكندرية التى تنجح دوما فى غرس حدائق من أزهار مختلفة الألوان والأنواع.