أقدم ذكرياتى مع شكسبير هى كتاب «قصص من شكسبير» الذى كان مقررًا علينا فى مادة اللغة الإنجليزية فى الثانوية. قبل هذا، أو بعده، لا أتذكر جيدًا، قرأت بعض مسرحياته التى ترجمها جبرا إبراهيم جبرا وصدرت عن سلسلة «روايات الهلال» وشاهدت بعض الأفلام التى عرضها التليفزيون المصرى، ومنها، وذلك أذكره جيدًا، أفلام «هاملت» الروسى للمخرج جريجورى كوزنتسيف، و«روميو وجوليت» الإنجليزى الذى أخرجه فرانكو زيفاريللى، و«ماكبث» الأمريكى للمخرج رومان بولانسكى، و«يوليوس قيصر» الذى أخرجه جوزيف مانكفيتش وشارك فى بطولته مارلون براندو، ومن كل فيلم من هذه الأفلام بقيت فى رأسى مشاهد وعبارات لا تنسى.
أحدث فيلمين شاهدتهما مؤخرًا عن شكسبير هما «ماكبث» للمخرج الأسترالى جاستن كورزل، تمثيل مايكل فاسبندر وماريون كوتيار، الذى عرض فى مهرجان «كان» العام الماضى، وبدأ عرضه العالمى منذ أسابيع، كما أعدت مشاهدة فيلم «كوريولانس» الذى أخرجه ولعب بطولته الممثل الإنجليزى راف فينيس. كل من هذه الأفلام يحتاج إلى مقال كامل، ولكنى أكتب اليوم عن شكسبير بمناسبة الاحتفالات العالمية بذكرى مرور أربعة قرون بالتمام والكمال على وفاته.
ويليام شكسبير، الذى ولد فى ٢٦ إبريل ١٥٦٤ وتوفى عن عمر لا يتجاوز الثانية والخمسين فى ٢٣ إبريل ١٦١٦، هو بدون أدنى شك أشهر كاتب مسرحى وشاعر على مر التاريخ والجغرافيا.
كتب شكسبير ٣٧ مسرحية، منها ١٤ ملهاة، كوميديا، و١٢ مأساة، تراجيديا، و١١ مسرحية تاريخية، تناول فيها تاريخ ملوك إنجلترا بعضها يتكون من عدة أجزاء.. كل هذه المسرحيات مكتوبة شعرًا.
كتب شكسبير أيضا شعرًا خالصًا فى شكل السوناتا، وقليلًا من القصائد الطويلة، ولكن مسرحياته هى إنجازه الأكبر الذى لا يبارى، والتى يستمتع بها الملايين فى كل أنحاء العالم، ويتعلم منها كل من كانت الدراما مهنته.
من ناحية الموضوعات كتب شكسبير فى كل «التيمات» الدرامية المعروفة، وكل عمل كتبه هو نموذج رئيسى للكتابة فى «التيمة» التى يناقشها العمل: الطموح القاتل فى «ماكبث»، الانتقام فى «هاملت»، الحب الممنوع فى «روميو وجوليت»، عقوق الأبناء فى «الملك لير»، «البخيل» فى «تاجر البندقية»، كوميديا الأخطاء، كيد النساء، ترويض المرأة الشاردة فى مسرحياته الهزلية.. إلى آخر التيمات التى عاشت عليها الدراما طوال تاريخها، والتى لا يكاد يوجد فيها جديد إلى الآن، وكل ما ينتج هو تقريبًا إعادة إنتاج للتيمات التى وضعها الإغريقيون وجسدها شكسبير كأفضل ما يكون.
من ناحية الشخصيات خلق شكسبير نماذج تضج بالحياة والتفاصيل تحولت إلى شخصيات من لحم ودم، نسى الناس أنها من ورق ويتعاملون معها كما لو أنها وجدت فعلًا، وكما لو أنهم عرفوها فعلا.
من ناحية الحوار تحولت جمل مسرحياته إلى أقوال مأثورة، تذكر معى مثلًا:
- «أكون أو لا أكون»، من مسرحية «هاملت».
- «العالم عبارة عن خشبة مسرح، وكل الرجال والنساء مجرد ممثلين. لديهم موعد للدخول وموعد للخروج، والمرء فى حياته يؤدى عدة أدوار»، من مسرحية « كما تحب».
- «اعطونى حصانا، مملكتى كلها فى مقابل حصان»، من «الملك ريتشارد الثالث».
- «ما أهمية الأسماء؟ هل تتغير رائحة الزهرة إذا أطلقنا عليها اسمًا آخر؟»، من «روميو وجوليت».
- «لكن الحب أعمى، والمحبون لا يرون»، من «تاجر البندقية».
- «المرء لا يمكن أن يموت سوى مرة واحدة»، من «الملك هنرى الرابع، الجزء الثانى».
- «من بين كل العواطف المنحطة، فإن الخوف ألعنها»، من «الملك هنرى السادس، الجزء الأول».
- «حتى أنت يا بروتوس»، من «يوليوس قيصر».
- «كل عطور العرب لا يمكنها تطهير هذه اليد الصغيرة»، من «ماكبث».
.. والقائمة لا تنتهى.
كل فكرة، كل شخصية، كل جملة حوار فى أعمال شكسبير تحمل وهج إبداعه وعبقريته، لدرجة أن البعض شككوا فى نسبة بعض أعماله له، والبعض شكك حتى فى وجوده، أما العرب فقام بعضهم، مثل الكاتب عباس العقاد والناقد الأدبى إبراهيم حمادة، بادعاء أن اسمه الحقيقى هو «الشيخ زبير» وأنه من أصل عربى، ربما لأن موهبة الشعر لم ينعم بها الله سوى على العرب!.
شكسبير إنجليزى، أوروبى، ولكنه أيضًا عربى، وهندى، وصينى وإفريقى، فيه يتجسد معنى الأديب والمفكر والفنان، العالمى، القادر على تجاوز حدود الأوطان والزمن واللغة. لا توجد لغة حية لم تترجم أعماله إليها، ولا يوجد مسرح لم تقدم عليه أعماله، ولا صناعة سينما لم تقتبس مسرحياته. وفى ذكرى وفاته الأربعمائة لا يزال شكسبير حيًا ينبض بالإبداع أكثر من أى شخص على قيد الحياة. ولو ظللت أكتب عنه حتى نهاية العام لن تفرغ الكلمات ولن أوفيه حقه.