توقفنا
في مقال الأمس عن عودة "طفل القرية .. سيد قطب" إلى مدرسته، وذلك بعد
هروبه منها وانقطاعه عنها، لمدة شهر كامل، بسبب هذا الوحش الكاسر، والمفترس، والذي
نعته بأبشع وأشنع الصفات والنعوت، وسماه "ضابط الجمباز"، وما ذاك إلا
لكونه فقط كان ضابطًا سابقًا بالقوات المسلحة المصرية العريقة والشريفة!
فلما عاد إلى المدرسة :" رحب به عرّيف المدرسة وفقيها- وكان
يُسمى الناظر- وسأله عن سبب غيبته، وهنا وجد السر قد ثقل عليه فأفضى به إليه، أنه
الخوف من "ضابط الجمباز"!
و لقد كان الناظر حكيمًا، فجعل يطمئنه من هذه الناحية، حتى شعر حقيقة بالطمأنينة،
وعلم أنه في مأمن من هذا الشيطان المريد (وهنا يصر على أن ينعت ضابط الجيش– وإن
كان متقاعدًا!- بنعت مشين جديد، ليؤكد على ما كان يحتوي عليه قلبه من حقدٍ وغلٍ
على ضباط جيش مصر العظيم منذ صغر سنه)، حتى يتعلم الحركات والتمرينات،
وأنه صغير فلابد أن تترك له فترة كبيرة للتعلم، ثم –وهذا هو الأهم- أن ناظر
المدرسة سيوصيه به خيرًا عندما يجيء!
ثم يقول "طفل القرية .. سيد قطب": وارتفع الكابوس عن صدره!
وحينما عاد في الظهر بعد قلق الجميع عليه، وأخبر أمه بما عمل، شاع الفرح في كيانها
كله، وضمته إلى صدرها في عطف جارف، وانتظرت مقدم أبيه لتزف إليه هذا الخبر السعيد،
ومع أن البشاشة قد شاعت في نفس الوالد حينما علم، إلا أنه تظاهر بعد الاكتراث، وأجابها
مازحًا: دعينا يا ستي منك ومن ولدك!
ثم يعمد "طفل القرية" إلى وصف مدرسته فيقول: ولقد كانت
المدرسة مؤلفة من ثلاث حجرت، وأمامها بطولها فناء المدرسة، وبه الباب الخارجي، وكان
بها خمس فرق من التلاميذ، موزعة كالآتي على الحجرات:
الفرقة الرابعة: وبها كبار التلاميذ، وفيهم من تجاوزت سنه العشرين.
الفرقة الثالثة: وتلاميذها أصغر قليلًا.
وهم في حجرة واحدة، ويُعَلِّمهم ناظر المدرسة.
والفرقتان الثانية والأولى في حجرة واحدة ويعلمهم المعلم الآخر.
والفرقة التحضيرية، وهي في حجرة مستقلة، وهذه يشرف على ثقافتها وتربيتها:
"إبراهيم" فراش المدرسة الوحيد!!
نعم، فلقد كان ينهي عمله في كنس المدرسة، وملء القلل (جمع: قلة وهي إناء
يُشرب منه ويعرفه أهل الريف في مصر) التي يشرب منها التلاميذ من الزيرين (مثنى: زير
وهو وعاء كبير لحفظ الماء) الكبيرين بالمزيرة (موضع الأزيرة)، ويمسح السبورات، ويزود
الحجرات بالطباشير اللازم، ثم ينقلب مربيًا، يشرف على الناشئة في دور التحير!!
و كان هذا وحده يكفي لتنفير الطفل من البقاء في السنة التحضيرية هذه، ويضاف
إليه وجود ابن خالته في السنة الرابعة، فأبدى رغبته هذه للناظر، وبعد مفاوضة اشترك
فيها العريف، استقر الرأي على أن يوجد في فصل "أولى وثانية" الذي يتولى
العريف التدريس فيه، على أن يذهب في بعض الأحيان إلى فصل السنة الرابعة للجلوس
بجوار ابن خالته!
ولكن عندما يجيء المفتش إلى المدرسة، فلابد أن يجلس في السنة
التحضيرية مدة وجوده.
وكان العريف والناظر كلاهما حفيين به، ولم يكن هذا عجيبًا، فجيوبه
تحمل لهما كل صباح كميات من السكر والشاي الذي يكلفون "إبراهيم" الفراش
بإعداد شراب لهما منه في الفسحة، وبعد الغداء، كما أن والده دائم الضيافة لهما في
الحين بعد الحين!
ولهذا كله كانا يعنيان بالتدريس له على حدة داخل الفصل بكتابة الحروف
الأبجدية، ثم الكلمات، ثم الجمل في لوحه الإردوازي، وتركه لمحاكاتها.
و كان يتقدم يومًا بعد يوم، وهو يتلقى العلم في شبه درسٍ خصوصيٍ! شأنه
في ذلك شأن عدد قليل من التلاميذ الآخرين من أبناء الأثرياء في القرية الذي يجدون
ما يجده من الرعاية والتدليل .
و في نهاية العام كان مؤهلًا لأن يُنقل إلى السنة الأولى فيجلس في
مكانه الطبيعي، وكان قد ألف جو المدرسة، وبدأ يكون تلميذًا حقيقيًا
.
ثم يضيف "سيد قطب
:طفل القرية" فيقول: وفي العام التالي خطت المدرسة خطوة أخرى، فعُين لها مدرس
ثانٍ، وبذلك أُعفي "إبراهيم" الفراش من مهمته الثقافية! واستقل بعمله
الإداري، ووُزع الجدول توزيعًا جديدًا، فصار المدرسان والناظر يتداولون الفصول
الثلاثة ذات الفرق الخمس .
و وقع تعديل آخر، فوضعت الفرقة الثانية والثالثة في حجرة، وانفردت
الفرقة الرابعة بحجرة وحدها، فيها عدا التلاميذ "دولاب" الناظر!، وبه الأقلام
والكتب والكراسات .
أما في العام الذي يليه، وحينما كان الطفل قد نقل على (لعله يقصد: إلى) السنة الثانية، فقد وقع انقلاب ضخم ارتجت له القرية ارتجاجًا
عنيفًا!
وأما قصة الانقلاب الضخم الذي اهتزت له القرية كلها ارتجاجًا عنيفًا،
فإن له حديثًا آخر، سوف نذكره في المقال القادم إن شاء الله .
وفي المقال القادم للحديث بقية.. إن شاء ربُّ البرية.
آراء حرة
سيد قطب.. طفلٌ من القرية! (6)
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق