واحنا صغيرين فى حصة الجغرافيا، كانت تقولها المعلمة بدون اكتراث وبلغة مجهولة الإيقاع لا مودة فيها، جافة مبتسرة ليس لها وجود فى حياتنا القروية البسيطة، وكنا نردد خلفها بدون وعى أو مودة أيضا «حار جاف صيفا، دافئ ممطر شتاء»، فى ذلك الوقت فى بداية سبعينيات عصر السادات لم يكن المطر يزور الصعيد أبدا، لم نكن قد شاهدناه حتى فى التليفزيون، التليفزيون نفسه لم يكن قد وصل إلى ديارنا بعد، ثم إن حكاية حار جاف صيفا دى برضه لم نكن نعرفها، كان الصيف بالنسبة لنا نار جهنم، البيوت جميعها مفتوحة أبوابها وقت الظهيرة، عسى أن تمر نسمة هواء فتغلط وتدخلها، بينما الجسر يشوى أقدام العابرين، القيالة مرعبة والأقدام التى لم تكن ترتدى فى أحسن الأحوال سوى «الجزم البلاستيك» قد شويت تماما، وها هم جماعات العائدين من فرق «اللطعة» يجرون خلف بعضهم إلى المنازل، ومافيش مانع كام واحد ينطوا فى الغميرة- يعومون ليس حبا فى السباحة، ولكن رغبة فى ندعة ماء تبلل الأجساد الطافحة بالصهد، وفى المنازل آباء بعضهم يضع البصل والملح أسفل القدمين تخفيفا للهيب، طيب بالذمة فين «جاف صيفا» فى المرار الطافح ده؟! مافيش، المهم أن الأمر لم يكن سيئا من بعد العصاري، كانت سماء الله تداعبنا نحن الأطفال فنهبط من أشجار السنط، أو النبق، نبحث عن «ندعة ضل»، ويتجمع الكبار فى ضهر أى «جالوس طين»، يلعبون السيجة، ويا سلام لو كان الوقت رمضان، كثيرا ما كان يفعلها ويجيء فى ذلك الصيف «الحار جاف»، وقتها لن يلعبوا لا سيجة ولا يحزنون، ولن تموت كلاب السيجة، لأنهم -الرجال الأشداء- يذهبون إلى السويقة لشراء الثلج، كانوا يأتون به على عربات كارو ملفوفا فى قماش خيش.. ويتم تقسيمه إلى قطع صغيرة، نأتى بها قبيل المغرب ونضعها إلى جوار القلل، حتى يصير العصير والتمرـ ساقعا.
المهم أن من بين هؤلاء الرجال الأشداء، رجل أسمر يضحك طول اليوم، اسمه عم رفعت موسى أطال الله عمره، كان ولا يزال رجلا طيبا، يحب فريدة الزمر التى كان يشاهدها فى التليفزيون الوحيد الذى دخل إلى قريتنا بعد وصول الكهرباء ينتظرها بالأسبوع قبل مواعيد مباريات الجمعة، أو بعد حديث الشيخ الشعراوى.. يرى أنها الأنثى الكاملة لمجرد أنها تبتسم..
هو رجل يحب البسمة ويحفظ مواويل حرب الزناتى خليفة.. ومواويل الحضرة.. ربما لأنه كان لا يملك سوى جمل، يذهب به لتحميل القمح بعد ربطه -قتايات- أو تحميل البرسيم، أو أى أغراض أخرى، كان جميلا غاليا على الجميع.. كنا نستمتع بركوبة خاصة بعد أن يقوم عم رفعت موسى بتحميمه، وتدليعه، وإطعامه.
جمل عم رفعت لم يكن الوحيد بالمنطقة لكنه كان الأشهر لدماثة خلق صاحبه وجدعنته.
سنوات لم تدم طويلا، تغير المناخ فجأة، وأصبحنا نشاهد المطر فى عز الصيف -اللى هوه حار جاف صيفا- والسيول فى الشتاء اللى هو -دافئ ممطر شتاء- ولم تعد على رءوس الغيطان أعواد الحلبة الخضراء، صارت القرى جميعها جافة، ولم يعد هناك جمال، ولا جواليس طين، ولا ألواح ثلج، بقى رمضان واختفت ملامح الفرح به، هل اختفى كل ذلك وتغير المناخ، لأن عم رفعت فى ليلة مالهاش عنين باع الجمل.
وتبعه الآخرون واحدا تلو الآخر وباعوا جمالهم؟!
هل باعوها لأن «التيوتات» نسبة إلى السيارة «تويوتا» التى غزت قرى الصعيد، لم تجعل لنا بالجمال حاجة، أم لأن أحدا لم يعد يزرع لا قمحا ولا عاقول.
على كل حال، يبدو أن تلك المدرسة الجافة هى السبب فى كل ما وصلنا إليه، لأنها لم تكن تحفظ دروس الجغرافيا بشكل جيد.