وقفنا بالأمس القريب عند هروب "طفل القرية .. سيد قطب" من المدرسة خوفًا وهلعًا من ضابط الجيش الذي نعته بأسوأ العبارات و أشنعها ، محاولًا تكريس صورة ذهنية لضابط الجيش في عقول وقلوب من يقرأ كتابه السقيم ، بأنه وحش كاسر ، لا يرحم و لا حتى الأطفال الصغار ! ثم ختم ذلك بمحاولة الربط بين هروبه من المدرسة وبين قسوة ضابط الجيش ليوحي لقرائه بمسئولية الضابط عن هروبه من المدرسة والتي كان بها العديد من المغريات ، ليسقط إسقاطًا خبيثًا يوحي بكون الجيش ، هو سبب الفشل في التعليم في مصر!! و أما اليوم فنبدأ من حيث انتهينا بالأمس من ساعة هروبه من المدرسة حيث يقول: "فما إن دق الجرس بعد الحصة الثانية –و قبل أن تبدأ التمرينات الأربعة- حتى كان قد غادر المدرسة ، قاصدًا المنزل ، هربًا مما ينتظره ، إذا هو آثر البقاء . و لكنه لم يعرف الطريق إلى المنزل ، فالمدرسة في طرف القرية و بيته في وسطها ، و هو طفل تجاوز السادسة بقليل ، و لم يكن يُترك ليلعب في الشوارع ، و يجوب طرقاتها كالأطفال ، حفظًا لملابسه النظيفة ، و حماية من التلوث بأخلاق أولاد القرية وألفاظها البذيئة . فما كاد يغادر المدرسة بضع خطوات ، فيقابل ثنية من ثنيات الطريق الكثيرة إلى منزله، حتى عرف أنه تاه، وأنه لا يعرف الطريق إلى المنزل بلا معين، و لكن الحل المعقول أن يعود إلى المدرسة فهي قريبة منه ، و أبوه سيحضر، كما أخبروه في فسحة الساعة العاشرة. و لكن هذا كان فوق ما تطيق أعصابه الصغيرة ( فهو يفضل الضياع على أن يعود إلى حيث يوجد قاتل الأطفال ذاك!!!)، و عند ذاك أدركه سلاح الأطفال ، فأخذ يبكي بصوتٍ عالٍ . و لقيه أحد رجال الحي فسأله عن اسمه ، فلما علم أنه ابن فلان ، ربت على ظهره وقاده إلى قرب المنزل ، وتركه بعد أن اطمأن إلى اهتدائه لداره . وعندما صار في مأمن من الجحيم ، و أخذ يسترد أعصابه، أدرك ما في فعلته من غضاضة –وكان على صغره يدرك هذه الغضاضة- (لاحظ أن الكبر والخيلاء و التعالي معه من قديم!) فلم يستطع أن يواجه أهل البيت بفعلته، لا خوفًا فقد كان آمنًا من الضرب ، و لكن حياءً من الفعلة التي لم تكن تليق. ففضل أن يزوي وجهه عنهم، و أن يعتزلهم في مخزن التبن، و قد كان ملحقًا بدارهم الكبيرة ، و لكن له بابًا مستقلًا ، فأغلقه عليه وارتمى فوق التبن ، فنام . و فوجئ والده ، وقد ذهب يحمل الفطائر و الحلوى إليه، بأنه قد هرب من المدرسة ، فعاد على المنزل ساخطًا على ما لقيه من كسوف ، عاد إلى المنزل و لم يكن أحد قد علم بحضور الطفل الهارب . فلما لم يجده و لم يجد خبرًا عنه ، انقلب سخطه إلى قلق على مصيره المجهول ، و امتلأ أهل البيت كلهم قلقًا . فخرج والده يبحث عنه في طرقات القرية ، و بعث برسلٍ آخرين يجوبون الشوارع الموصلة إلى المدرسة كلها و يسألون عنه من صادفوه من أهل القرية ، حتى لقي ذلك الرجل الذي صحبه إلى داره ، فأخبرهم خبره ، فاطمأنوا بعض الاطمئنان ، و في أثناء هذا البحث في الخارج كان قلب الأم قد قادها إلى مكمنه ، فوجدته نائمًا فاحتضنته ، و رفعته إلى كتفها في رحمة ظاهرة . أما هو فقد أفاق ، و لكنه لم يستطع أن يرفع إليها نظره ، لقد دفن وجهه في صدرها ، و جعل يبكي و ينشج ، و عبثًا حاولت أن تقف منه على سر هروبه من المدرسة ، هي أو أحد من أهله ، فلقد أخجله أن يعترف لهم بخوفه من ضابط الجمباز !! يقول "طفل القرية :سيد قطب إبراهيم" ما نصه : كان قد مضى شهر على هروبه من المدرسة خوفًا من ضابط الجمباز ، و كانت أمه في كربٍ دائم ، و هو مقعد مقيم ، لكنه لم ينخرط في سلك التلاميذ كما كانت ترجو ، فلقد كانت تذخر له في نفسها آمالًا جسامًا تعلقها كلها على نجاحه في هذه المدرسة الأولية ليكون بداية لسفره إلى القاهرة عند خاله لإتمام تعليمه ، و عندئذٍ تتحقق هذه الآمال الجسام التي تنوطها بطفلها الصغير . ( و كانت هذه هي بداية ذكر العقدة التي ألمت بنفسية "سيد قطب" منذ كان طفلًا صغيرًا ، و كانت سببًا قويًا و مباشرًا و مؤثرًا بشدة في حياته فيما بعد ، و بدا أثرها جليًا في التحولات و التقلبات الشديدة في شخصية "سيد قطب" فيما بعد ، و التي سوف نفرغ لها مساحة من البيان نكشف فيها السبب النفسي لتقلباته و تحولاته ، من حالة إلى نقيضها و من الأمر إلى ضده و من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين بحثًا عن تحقيق الهدف المنشود الذي كانت ترجوه منه أمه و غرسته في أعماق نفسه حتى كان يبحث عن تحقيقه ربما دون أن يدري! ). يقول "طفل القرية" : و كان أخوه الأكبر –و هو ليس شقيقة!- دائم التهكم عليه لهروبه من المدرسة ، و كان هو يحقد على أخيه! بسبب هذا التهكم ، حتى لقد جرؤ على ما لم يجرؤ عليه قط من قبل و من بعد ، و ما تنكره تقاليد الأسرة كل الإنكار ، جرؤ على أن يقذف أخاه بغطاء القُلة (القلة: إناء للشرب يعرفه أهل الريف في مصر) في وجهه ثم يلوذ بالفرار ! (لا حظ هنا أن الحقد هو صديق "سيد قطب" الصدوق، و رفيق دربه المخلص! منذ كان لا يزال "طفل من القرية" يبول على عقبيه! و في حين كان لا يعرف أترابه الحقد و الغل و شتى ضغائن النفوس ، كان هو متفوقًا على أبناء جيله في الحق و الغل و الحسد سابقًا لزمانه و كأنما ولد الحقد معه أو ولد هو معه! و لقد كان من شدة حقد قلبه يحقد على كل أحد لدرجة أنه كان يحقد على أخيه الأكبر!!). أما والده فلم يوجه إليه كلمة واحدة ، و كان هذا أمرُّ عليه من تهكم أخيه ، و أخيرًا وجد نفسه منساقًا إلى أن يعود إلى المدرسة و لكن بلا ضجة و لا مراسيم في هذه المرة ، و بلا تحضير أو تدبير ، فوجد نفسه ذات صباح يصحو مبكرًا فيرتدي ملابسه الرسمية ، و يتوجه إلى بيت خالته فيدعوا ابنها و يخبره أنه ذاهب معه إلى المدرسة في هذا اليوم . وفي المقال القادم للحديث بقية .. إن شاء ربُّ البرية .
آراء حرة
سيد قطب .. طفل من القرية! "5"
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق