الأربعاء 04 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

سيد قطب .. طفل من القرية! "5"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
وقفنا بالأمس القريب عند هروب "طفل القرية .. سيد قطب" من المدرسة خوفًا وهلعًا من ضابط الجيش الذي نعته بأسوأ العبارات و أشنعها ، محاولًا تكريس صورة ذهنية لضابط الجيش في عقول وقلوب من يقرأ كتابه السقيم ، بأنه وحش كاسر ، لا يرحم و لا حتى الأطفال الصغار ! ثم ختم ذلك بمحاولة الربط بين هروبه من المدرسة وبين قسوة ضابط الجيش ليوحي لقرائه بمسئولية الضابط عن هروبه من المدرسة والتي كان بها العديد من المغريات ، ليسقط إسقاطًا خبيثًا يوحي بكون الجيش ، هو سبب الفشل في التعليم في مصر!! و أما اليوم فنبدأ من حيث انتهينا بالأمس من ساعة هروبه من المدرسة حيث يقول: "فما إن دق الجرس بعد الحصة الثانية –و قبل أن تبدأ التمرينات الأربعة- حتى كان قد غادر المدرسة ، قاصدًا المنزل ، هربًا مما ينتظره ، إذا هو آثر البقاء . و لكنه لم يعرف الطريق إلى المنزل ، فالمدرسة في طرف القرية و بيته في وسطها ، و هو طفل تجاوز السادسة بقليل ، و لم يكن يُترك ليلعب في الشوارع ، و يجوب طرقاتها كالأطفال ، حفظًا لملابسه النظيفة ، و حماية من التلوث بأخلاق أولاد القرية وألفاظها البذيئة . فما كاد يغادر المدرسة بضع خطوات ، فيقابل ثنية من ثنيات الطريق الكثيرة إلى منزله، حتى عرف أنه تاه، وأنه لا يعرف الطريق إلى المنزل بلا معين، و لكن الحل المعقول أن يعود إلى المدرسة فهي قريبة منه ، و أبوه سيحضر، كما أخبروه في فسحة الساعة العاشرة. و لكن هذا كان فوق ما تطيق أعصابه الصغيرة ( فهو يفضل الضياع على أن يعود إلى حيث يوجد قاتل الأطفال ذاك!!!)، و عند ذاك أدركه سلاح الأطفال ، فأخذ يبكي بصوتٍ عالٍ . و لقيه أحد رجال الحي فسأله عن اسمه ، فلما علم أنه ابن فلان ، ربت على ظهره وقاده إلى قرب المنزل ، وتركه بعد أن اطمأن إلى اهتدائه لداره . وعندما صار في مأمن من الجحيم ، و أخذ يسترد أعصابه، أدرك ما في فعلته من غضاضة –وكان على صغره يدرك هذه الغضاضة- (لاحظ أن الكبر والخيلاء و التعالي معه من قديم!) فلم يستطع أن يواجه أهل البيت بفعلته، لا خوفًا فقد كان آمنًا من الضرب ، و لكن حياءً من الفعلة التي لم تكن تليق. ففضل أن يزوي وجهه عنهم، و أن يعتزلهم في مخزن التبن، و قد كان ملحقًا بدارهم الكبيرة ، و لكن له بابًا مستقلًا ، فأغلقه عليه وارتمى فوق التبن ، فنام . و فوجئ والده ، وقد ذهب يحمل الفطائر و الحلوى إليه، بأنه قد هرب من المدرسة ، فعاد على المنزل ساخطًا على ما لقيه من كسوف ، عاد إلى المنزل و لم يكن أحد قد علم بحضور الطفل الهارب . فلما لم يجده و لم يجد خبرًا عنه ، انقلب سخطه إلى قلق على مصيره المجهول ، و امتلأ أهل البيت كلهم قلقًا . فخرج والده يبحث عنه في طرقات القرية ، و بعث برسلٍ آخرين يجوبون الشوارع الموصلة إلى المدرسة كلها و يسألون عنه من صادفوه من أهل القرية ، حتى لقي ذلك الرجل الذي صحبه إلى داره ، فأخبرهم خبره ، فاطمأنوا بعض الاطمئنان ، و في أثناء هذا البحث في الخارج كان قلب الأم قد قادها إلى مكمنه ، فوجدته نائمًا فاحتضنته ، و رفعته إلى كتفها في رحمة ظاهرة . أما هو فقد أفاق ، و لكنه لم يستطع أن يرفع إليها نظره ، لقد دفن وجهه في صدرها ، و جعل يبكي و ينشج ، و عبثًا حاولت أن تقف منه على سر هروبه من المدرسة ، هي أو أحد من أهله ، فلقد أخجله أن يعترف لهم بخوفه من ضابط الجمباز !! يقول "طفل القرية :سيد قطب إبراهيم" ما نصه : كان قد مضى شهر على هروبه من المدرسة خوفًا من ضابط الجمباز ، و كانت أمه في كربٍ دائم ، و هو مقعد مقيم ، لكنه لم ينخرط في سلك التلاميذ كما كانت ترجو ، فلقد كانت تذخر له في نفسها آمالًا جسامًا تعلقها كلها على نجاحه في هذه المدرسة الأولية ليكون بداية لسفره إلى القاهرة عند خاله لإتمام تعليمه ، و عندئذٍ تتحقق هذه الآمال الجسام التي تنوطها بطفلها الصغير . ( و كانت هذه هي بداية ذكر العقدة التي ألمت بنفسية "سيد قطب" منذ كان طفلًا صغيرًا ، و كانت سببًا قويًا و مباشرًا و مؤثرًا بشدة في حياته فيما بعد ، و بدا أثرها جليًا في التحولات و التقلبات الشديدة في شخصية "سيد قطب" فيما بعد ، و التي سوف نفرغ لها مساحة من البيان نكشف فيها السبب النفسي لتقلباته و تحولاته ، من حالة إلى نقيضها و من الأمر إلى ضده و من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين بحثًا عن تحقيق الهدف المنشود الذي كانت ترجوه منه أمه و غرسته في أعماق نفسه حتى كان يبحث عن تحقيقه ربما دون أن يدري! ). يقول "طفل القرية" : و كان أخوه الأكبر –و هو ليس شقيقة!- دائم التهكم عليه لهروبه من المدرسة ، و كان هو يحقد على أخيه! بسبب هذا التهكم ، حتى لقد جرؤ على ما لم يجرؤ عليه قط من قبل و من بعد ، و ما تنكره تقاليد الأسرة كل الإنكار ، جرؤ على أن يقذف أخاه بغطاء القُلة (القلة: إناء للشرب يعرفه أهل الريف في مصر) في وجهه ثم يلوذ بالفرار ! (لا حظ هنا أن الحقد هو صديق "سيد قطب" الصدوق، و رفيق دربه المخلص! منذ كان لا يزال "طفل من القرية" يبول على عقبيه! و في حين كان لا يعرف أترابه الحقد و الغل و شتى ضغائن النفوس ، كان هو متفوقًا على أبناء جيله في الحق و الغل و الحسد سابقًا لزمانه و كأنما ولد الحقد معه أو ولد هو معه! و لقد كان من شدة حقد قلبه يحقد على كل أحد لدرجة أنه كان يحقد على أخيه الأكبر!!). أما والده فلم يوجه إليه كلمة واحدة ، و كان هذا أمرُّ عليه من تهكم أخيه ، و أخيرًا وجد نفسه منساقًا إلى أن يعود إلى المدرسة و لكن بلا ضجة و لا مراسيم في هذه المرة ، و بلا تحضير أو تدبير ، فوجد نفسه ذات صباح يصحو مبكرًا فيرتدي ملابسه الرسمية ، و يتوجه إلى بيت خالته فيدعوا ابنها و يخبره أنه ذاهب معه إلى المدرسة في هذا اليوم . وفي المقال القادم للحديث بقية .. إن شاء ربُّ البرية .