السبت 23 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

هلافيت الإعلام الإيطالي في قضية جوليو ريجيني

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يعيش عدد كبير من الصحفيين والإعلاميين المصريين بشعور من الدونية الكاملة تجاه كل ما تنشره الصحافة الغريبة، يقفون أمامه وكأنه وحى من السماء لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يتعاملون معه على أنه الصواب المطلق، ينظرون إليه وهم مسلوبو الإرادة تمامًا، وتجدهم وبنشوة غريبة ينقلون ما تنشره هذه الصحف مدافعين عنه، وكأنهم من توصلوا إليه، ودققوا معلوماته، ووزنوا منطقه وتحليله، وإذا جربت وعارضتهم فيما ذهبوا إليه ينظرون إليك باحتقار، وكأنك أخطأت فى الذات الصحفية العليا.
هؤلاء أقدر ضعفهم وتهافتهم وتماهيهم مع ما تنشره الصحافة الغربية، لكن ما يجب ألا نغفله، هو سلوك فريق آخر يتعامل بخبث شديد مع ما تنشره الصحف الغربية عن مصر، هؤلاء يرصدون كل ما هو سلبى وفيه انتقاص من مصر واتهام لها، يعيدون نشره، مبشرين من يقرأ بفتح عظيم، فقد جاءوه بالخبر اليقين، رغم أنهم لم يتحملوا أكثر من عناء الترجمة، وفى روايات أخرى النقل عن المصدر الأول الذى قام بالترجمة، وهو فى الغالب مصدر ليس منزهًا عن الهوى.
ولا أدرى ما هو موقف من نقلوا عن الصحيفة الإيطالية «لا ريبوبليكا» ما نشرته فى سياق تغطيتها لمقتل جوليو ريجينى، عندما قالت إن فريق التحقيق الإيطالى تلقى إيميلًا من مصدر عرف نفسه بأنه يعمل فى جهاز الأمن المصرى، أشار فيه إلى أن الطالب الإيطالى تم تعذيبه فى غرف جهاز الأمن المصرى المغلقة، وحدد صاحب الرسالة الإلكترونية أماكن محددة فى جسم ريجينى تلقت التعذيب، بما يدل على أن المصدر الأمنى كان قريبًا مما جرى.. ثم تبين بعد ذلك أن صاحب الإيميل هو المعتوه عمر عفيفى رجل الشرطة الطريد، الذى فضح نفسه، فقد كان ما كتبه فى الإيميل هو نفس ما نشره على صفحته الخاصة بالفيسبوك.
ساقت المواقع التى نشرت هذه الواقعة منسوبة إلى «لا ريبوبليكا» وعلى رأسها موقع «مدى مصر»، عازفة على لحن أن هذه الصحيفة هى الأهم فى إيطاليا والأكثر تأثيرًا، وهو نوع من الإيحاء النفسى بأن ما تقوله صحيحًا مائة بالمائة، ولا يقبل التشكيك على الإطلاق، وبعد أن اتضح أن الصحيفة الإيطالية وقعت فى فخ التضليل، لم تحاول المواقع المشبوهة أن تصحح ما سبق أن نشرته، ولو من باب ستر العورة.. لكن من قال إنهم يرغبون فى ستر عوراتهم؟
قبل أيام من تقرير «لا ريبوبليكا»، نشر موقع يدعى «حرية بوست» ما قال إنه نقلًا عن مصادر إيطالية، دون أن يحدد هويتها، إن المدعى العام الإيطالى حدد قائمة من الأسماء لقيادات مصرية بارزة - عددهم وصل إلى ١٤ مسئولا - وطلب التحقيق معهم بتهمة اشتراكهم فى مقتل الطالب الإيطالى، وبعد أن أعلن المدعى العام الإيطالى أنه لم يحدد أى أسماء على ذمة الاتهام بمقتل ريجينى، لم تضع هذه المواقع حبة ملح مهنية فى عينها، وتصحح ما نشرته.
يمكن أن تبسط الأمر كله وتقول إننا أمام أزمة مهنية فى الصحافة المصرية، لكن الأمر على الأرض يتجاوز الأزمة ليصل إلى درجة المؤامرة المحكمة، ويمكن أن تقسم الأمر على عدة نطاقات واضحة.
النطاق الأول: مؤامرة الجهل، وهى المؤامرة التى يقوم بها من يستسلمون لكل ما تنشره الصحف الإيطالية والغربية عموما عن حادث مقتل ريجينى، يعيدون نشره دون تدقيق أو تفتيش، يتعاملون معه على أنه صواب مائة فى المائة، معتمدين فى ذلك على ما يعتقدون أنه صواب، فهم يتيحون للقارئ كل ما ينشر عن مصر، دون أن يدركوا أن الصحف الإيطالية لا تنشر إلا ما يصب فى مصلحتها، وجزء من هذه المصلحة مغازلة قارئها، الذى تريد أن تشحنه ضد مصر، مبتزة فى ذلك عواطفه ومشاعره، فمن مات فى مصر مواطن إيطالى مثله.
النطاق الثانى: مؤامرة الانتقام... وتقوم بها مواقع تابعة بالكلية لجماعة الإخوان المسلمين وحلفائها، ويمكن أن تقابلك فى هذا السياق مواقع معروفة سلفًا مثل «العربى الجديد ورصد والحرية والعدالة والمصريون وحرية بوست».. وغيرها، وهى مواقع لا تجتهد فقط فى نقل ما تنشره الصحف الغربية والإيطالية عن مصر وعن حادث ريجينى، ولكنها تخترع أحداثًا وتفبرك أخبارًا، فلا هم لها إلا إدانة النظام المصرى، وهى مواقع لا تخفى هويتها ولا أهدافها، ومصادر تمويلها معروفة للجميع، وهى فى كل ما تفعله لا تتورع عن الكذب، لأن الكذب فى الأساس أداة من أدواتها فى مواجهة النظام.
النطاق الثالث: مؤامرة الشماتة.. وتقوم بها مواقع كان أصحابها فى معسكر ٣٠ يونيو، ثم تفرقت بهم السبل، لديهم مواقف واضحة من النظام الحاكم، لا يريدون له بقاء، لا يفعلون ذلك انتقامًا من أجل الإخوان المسلمين، ولكن يفعلونه من أجلهم هم، ويمكن أن تتوقف هنا عند موقعين بالتحديد، الأول هو «مدى مصر»، والثانى هو «بوابة يناير»، فعندما تطالعهما تشعر وكأن هناك ثأرًا مبيتًا بين من يعملون فيهما وبين النظام، وعندما تستعرض أسماء من يعملون هناك ستجد أن الأمر طبيعي ولا غرابة فيه على الإطلاق.
من يندرجون تحت مظلة النطاقات الثلاثة للمؤامرة لا مهنية فيما يعملون على الإطلاق، رغم أنهم لا يكفون عن الثرثرة عن المهنية والدقة والموضوعية والحيادية، وكل الكلمات الزائفة، التى عندما يرددها من يعملون فى الإعلام لا بد أن تنظر إليهم بريبة شديدة، فهم يستخدمون هذه الكلمات التى تبدو براقة للدفاع عن أنفسهم لسابق علمهم بأنهم مدانون.
هؤلاء الذين يعملون بجد واجتهاد لإدانة النظام المصرى بالحق والباطل، معتمدين فى ذلك على ما تنشره الصحف الغربية، وما يضعونه من خيالهم، ينجحون ليس لأنهم يؤدون عملهم ببراعة، ولكن لأن هناك جبهة كاملة يمثلها النظام المصرى، غائبة تماما عن المواجهة، تخفى معلوماتها وكأنها عورة لا يجب لأحد أن يطلع عليها، رغم أن النظام لو جرب وتعامل باحترافية فى نشر معلوماته، لدخلت كل فئران هذه المواقع المشبوهة جحورها مرة واحدة، ولما طلت علينا بوجوهها القبيحة.
النظام المصرى الآن وبفعل الظروف التى جاءت به إلى الحكم، يجب أن يعى أنه لا يدير جمعية خيرية، ولكنه يدير بلدًا مستهدفًا تمامًا من الداخل والخارج، كل فئة تريد أن تصيغه على هواها، ولو استسلمنا لذلك، لوجدنا أنفسنا أمام حالة هائلة من الفوضى، ومن الطبيعى أن تكون هناك أخطاء، ولأننا فى ظرف استثنائى، فيجب أن يكون النظام بكل أجهزته متصالحًا مع نفسه ومعلنًا عن هذه الأخطاء دون أن يتركها للآخرين يضخمونها ويصنعون منها آلة حرب يواجهونه بها بعد ذلك.
التعامل مع قضية جوليو ريجينى كان مريبًا من كل الأطراف على السواء، أجهزة الدولة راوغت من اللحظة الأولى، أنكرت ودارت، لاحظ أن أول إعلان عن تفسير للحادث بعد اكتشاف جثة ريجينى فى صحراء أكتوبر أن سيارة صدمته، قالها أحدهم قبل التحقيقات والتحريات، ولو أن النظام فعلها لكان من المفروض أن يعلن مسئوليته كاملة ويبدى استعداده لتحمل المسئولية، لأن إثبات التهمة عليه الآن سيكون أمرًا مؤسفًا للغاية.
على الجانب الآخر حدد المتربصون بالنظام من اللحظة الأولى موقفهم، اتهموا جهاز الشرطة بأنه من فعلها، وقد استبقوا فى ذلك أيضًا التحقيقات والتحريات، وأصبحوا على يقين كامل أن الطالب الإيطالى عذب وقتل على يد جهاز الأمن المصرى، ورغم أنهم لم يقدموا أى دليل على ما قالوه، إلا أنهم تعاملوا بيقين كامل على أن هذه هى الحقيقة الوحيدة التى لا تقبل شكًا ولا تشكيكًا لديهم، وهو موقف لا يمكن أن نفهمه إلا على محمل واحد، وهو أن من أدانوا النظام فى مقتل الطالب الإيطالى من اللحظة الأولى، يرغبون فى هزيمة هذا النظام وفضحه وتجريسه حتى لو كان بشىء لم يفعله.
وسط الغبار الهائل الذى كاد أن يعمى العيون لم يلتفت أحد إلى ما قاله القطب اليسارى الكبير، الدكتور رفعت السعيد، رئيس المجلس الاستشارى لحزب التجمع، كان السعيد يجرى مداخلة مع إحدى القنوات الفضائية، وصرح بأن جوليو ريجينى كان جاسوسًا للمخابرات الإيطالية، وهو ما أرجع البعض اهتمام السلطات الإيطالية بمقتله لهذا السبب تحديدًا، فهو ليس مواطنًا عاديًا، لكن الأهم بالنسبة لى فيما قاله رفعت السعيد، أنه حتمًا لديه معلومات واضحة ومؤكدة عن الباحث الذى كان متورطًا فى الحديث والتعامل مع الحركات العمالية والتنظيمات اليسارية، صحيح أن كونه جاسوسا لا يبرر تعذيبه وقتله، هناك إجراءات أخرى تتعامل بها الأجهزة الأمنية مع من هم مثله، لكن ما لفت انتباهى أن الجميع تجاهل هذه المعلومة، وكأنها لم تكن، رغم أنها لو ثبتت، فإن القضية كلها يمكن أن تأخذ منحى مختلفًا.
لماذا أشير إلى ما قاله رفعت السعيد فى سياق حديث عن تعامل الصحفيين المصريين مع ما تنشره الصحف الغربية عن مقتل ريجينى؟
السبب ببساطة لأن هناك فى مصر من قدموا معلومات وتحليلات كثيرة عن الحادث الغامض، دون أن يتعامل معها أحد بجدية، وهو تأكيد على ما ذهبت إليه من أن هناك حالة من الدونية فى التعامل مع الصحف الغربية، واعتبار أن كل ما تقوله عن مصر صحيحًا، رغم أنه فى الغالب لا يكون كذلك على الإطلاق. أصحاب مؤامرة الجهل يمكن إعادة تقويمهم، فهؤلاء ضحايا لرغباتهم بنشر كل ما هو مثير حتى لو لم يكن حقيقيًا، ولا يعرفون أنهم أسرى لصحف إيطالية لديها نفس الرغبة فى تحقيق السبق والتفوق وتحقيق مبيعات حتى لو لم يكن ما تنشره صحيحًا، يمكن إصلاحهم بأن يتخلى النظام عن صمته، فالمعلومة الصحيحة التى يقدمها لهم ستحل تلقائيًا مكان المعلومات الزائفة التى يجرون خلفها فى الصحف الغربية، أما أبناء مؤامرتى الانتقام والشماتة فهؤلاء لا رجاء منهم ولا فيهم، إنهم مجموعة من الهلافيت التابعين لأهوائهم، ينقلون من الصحف الغربية ما يعتقدون أنه يمكن من خلاله أن يهزموا الدولة ويهدموا به النظام، إنهم يعرفون أن الصحف الغربية مضللة، تسعى إلى محاصرة النظام المصرى، ولأنهم أصحاب مصلحة فى هدم النظام، فإنهم يفسحون مساحاتهم الواسعة لهذا الهراء الذى يأتينا من الغرب.. لا سبيل لإصلاح هؤلاء.. فلا أقل من كشفهم.. وهذا أضعف الإيمان الآن على الأقل.