الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

بديهيات في فهم العالم.. خطورة مفهوم المفاجأة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

يقوم العلم على إمكانية التنبؤ، ومن ثم فإن المنطق العلمي يقوم على استبعاد مفهوم أن حدثًا ما يقع فجأة دون مقدمات، ومن ثم يستعصي على إمكانية التفسير، فالأمر المفاجئ يعني أمرًا لم يكن يتوقعه المتلقي، والمسئولية هنا تقع على عاتق ذلك المتلقي وحده؛ في حين ذلك العالم الذي نعيشه ونشهده، أي عالم الشهادة بالتعبير الديني، عالم عقلاني تحكمه قوانين صارمة، على رأسها أن لا واقعة بدون أسباب، وأن معرفة تلك الأسباب ممكنة، لا مجال في العالم لمصادفة أو مفاجأة، ورُب من يتساءل وبحق، ولكننا جميعًا وبلا استثناء نندهش ونفاجأ مندهشين في كثير من الأحيان بأحداث صغيرة أو كبيرة لم نكن نتوقعها، فضلًا عن أنها تستعصى على التفسير.
لا خلاف في ذلك البتة، بل لعلنا لا نبالغ إذا قلنا أن مثل تلك الدهشة والمفاجأة والعجز عن التفسير كانت وما زالت بمثابة الشرارة أو القوة الدافعة لكل إنجاز علمي عرفته البشرية، ولكنها أيضًا- تلك الدهشة والمفاجأة والعجز عن التفسير- كانت بذاتها أداة التجهيل والتخلف، وذلك حين يتجمد المرء مندهشًا مأخوذًا عاجزًا عن التفسير، فإذا به يندفع أو يدفع به آخرون صوب التسليم بأن هذا العالم غير قابل للفهم أو التنبؤ، وهنا يكمن الفارق الحاسم بين دهشة رجل العلم الذي يعترف بقصوره الشخصي عن فهم واقعة معينة والتنبؤ بمسارها، ويظل في نفس الوقت على يقين من أن تلك الواقعة قابلة للتفسير، وأنه لو عجز عن تفسيرها اليوم فسينجح أو ينجح غيره في تفسيرها وحل طلاسمها يوما ما.
والأمثلة في مجال تاريخ العلوم غنية عن البيان، لقد ظل البشر طويلاً عاجزون عن التوصل لأسباب العديد من الأمراض؛ ودفع ذلك العجز عن الفهم بالعديدين إلى التسليم باستحالة التوصل للتفسير ومن ثم العلاج، فاندفعوا مستسلمين إلى السحرة والكهان والدجالين، وفي مقابل ذلك الموقف ظل رجال العلم يكدون بحثًا عن الأسباب الموضوعية للأمراض، فأحرزوا قدرًا كبيرًا من النجاح وما زالوا على الطرق.
ولا تقتصر خطورة مفهوم المفاجأة على مجال العلوم الطبيعية فحسب؛ بل لعلها تكون أشد خطورة في مجال تفسير الظواهر الاجتماعية، ترى هل كان انهيار الاتحاد السوفييتي مفاجأة حقًّا بالمعنى العلمي؟. إنه بلا شك كان مفاجأة لي.. وربما مفاجأة للقارئ أيضا وللكثيرين، ولكنه كان مفاجأة لأننا أخفقنا في عملية الرصد الدقيق لما يجري خلف “,”الستار الحديدي“,”، ومن ثم أخفقنا في التنبؤ بوقوع ما جرى.
مثال آخر لعله أكثر وضوحًا، وأكثر اتصالًا بموضوعنا، إننا على سبيل المثال نميل في كثيرِ من الأحيان إلى وصف الإنجاز المصري العربي في حرب أكتوبر بأنه “,”معجزة“,”، وليس من بأس في ذلك إذا ما اقتصر الأمر على خطبة حماسية، أو أغنية، أو نشيد، أما أن يكون الحديث عن “,”معجزة أكتوبر“,” حديثًا جادًّا يتخذ سمت التحليل العلمي، فإن الأمر في هذه الحالة يصبح جد خطير، فهو من ناحية يحرم أبطال أكتوبر من مجدهم الحقيقي، فالمعجزة إنما يتمثل إعجازها في أن البشر يعجزون عن تحقيقها، إنها تقع مستقلة تمامًا عن إرادة البشر، ومن ثم فإنهم يعجزون عن تكرارها لو كانت نصرًا، بل وعن تحاشيها لو كانت هزيمة، ولعلنا دفعنا ثمنًا كاد أن يكون باهظًا لمثل هذا التصور بالنسبة لهزيمة يونيو 1967، ومن هنا كان إلحاح قادة أكتوبر دومًا على عرض الدروس المستفادة من الحرب.
خلاصة القول إننا أحوج ما نكون في عالم اليوم أن يتمكن الجميع من الكف عن الوقوف عند رد الفعل للمفاجآت التي نفشل في التنبؤ بها.