أجمعت قواعد الطب النفسى أن «حالة الاعتراف» هى أول خطوة على طريق التعافى من الأمراض والأزمات.. وأنه لا سبيل للعلاج طالما ظل المعنيون بالأزمة فى «حالة إنكار» لها. أحد الأسباب الأساسية وراء التعامل –على جميع الأصعدة- مع أزمة الطائرة المخطوفة أن الرأى العام فى مصر لم يعد يفتقد شجاعة الاعتراف بوجود أخطاء.. صحيح أنه فى مقابل التناول الموضوعى ما زالت بعض الأقلام تدور داخل حلقات «الندب واللطم» واستحضار تساؤلات غير منطقية فى كل أزمة.. مثلا فى حادث المواجهة المسلحة بين الشرطة وأفراد عصابة «تم ربطها» بقضية الإيطالى جوليو ريجينى، يُذكر لوزارة الداخلية عدم صدور أى بيان رسمى يؤكد مسئولية هذه العصابة عن مقتل ريجينى، كلمة «على صلة» أو وجود متعلقات ريجينى تعنى أن العصابة طرف رئيسى مشتبه به، ويمثل خيطا فى حل اللغز، لكن للأسف «فوبيا» التحفز أعمت الكثيرين حتى عن القراءة الدقيقة للبيانات وسارعوا إلى التعامل معها كإعلان عن القبض على قتلة الشاب الإيطالى.. فى المقابل يؤخذ على الداخلية إعلان التفاصيل عبر برنامج «توك شو» بدلا من اختيار الوسيلة الأمثل وتنظيم مؤتمر صحفى للوكالات الأجنبية تعرض خلاله واقعة المواجهة المسلحة مع العصابة والخيوط التى تربطها بقضية ريجينى، خصوصا أنها ما زالت تحظى باهتمام دول الغرب.
حالة الاعتراف تفرض استيعاب حقيقة مؤلمة، لكنها واقعية. إن تحقيق التوازن بين مقومات الديمقراطية والاستنفار الأمنى الكامل الذى تستدعيه حالة الحرب على الإرهاب أمر بالغ التعقيد فى إطار تصور العدالة المطلقة، هذه الحالة على صعيد العالم وليس مصر فقط تحتمل حدوث أخطاء للأسف، والأمثلة كثيرة، وبعيدا عن كواليس «المؤامرات» هناك نماذج فى طرح الإعلام المصرى سواء المقروء والمرئى –رغم كل السلبيات والأخطاء المعروفة- تقدم نماذج مهنية أرقى مما يرد فى الكثير من وسائل الإعلام الأمريكية والغربية التى تعتبر مؤثرة فى القرار السياسى.. عناوين «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» وغيرهما ما زالت منذ عام ٢٠١٣ -حتى فى تغطية حادثة الطائرة المختطفة- تستعيد النغمات النشاز للأسطوانة المشروخة التى لا تمل من تكرارها وتتباكى على «سلمية!» عصابة البنا، والتبعات التى تتحملها مصر نتيجة إنهاء كارثة دأبت هذه الوسائل على وصفها بالحكم المنتخب! والأغرب أن تحمل هذه «التفاهات» توقيع مجلس التحرير أى أنه يمثل رأى المؤسسة وليست مجرد آراء شخصية تعبر عن أصحابها.
المطلوب من المواطن المصرى تقبل التناقض الغريب بين أولا حوار الرئيس أوباما الذى أعلن فيه عن عدم جدوى التقارب مع دول المنطقة العربية وشعوبها الكامنة داخل متاهات الماضى ولا ترغب فى التأقلم مع متطلبات وحقائق الحاضر، فى مقابل موقف مؤسساته الإعلامية والسياسية القريبة من مصادر صنع القرار، والتى ما زالت تعيش على ذكرى عام ظلامى ابتليت به مصر، وترفض هى تحديث رؤيتها للمنطقة العربية بمعزل عن إطار هذه النافذة الضيقة، عبر مصطلحات ركيكة على وزن «يُعتقد أنه» أو «على أغلب الظن»، ولن تنجح كل شرائط فيديو موقع «يوتيوب» التى توثق جرائم عصابة البنا ولا كل المحاولات الجادة المبذولة على الصعيد السياسى والأمنى والاقتصادى للخروج من عنق الزجاجة فى إقناعهم بالحقيقة أو دفعهم إلى تقديم خدمة إخبارية متطورة- وليس المطلوب أن تكون مجاملة- عن الشأن المصرى. بعيدا عن التفكير التآمرى، أوباما اختار تعليق هذا التناقض على «شماعة» العرب.. بدلا من ممارسة شجاعة الاعتراف بأخطاء التخبط والفوضى للحسابات السياسية الأمريكية تجاه المنطقة العربية.
التحول الكبير الذى حدث فى المواقف الأمريكية والغربية تجاه الأزمة السورية، من العداء الصارخ لبشار الأسد والإصرار على رحيله حتى عن طريق استخدام القوة المسلحة، أو أن يكون الثمن تسليم سوريا إلى التنظيمات الإرهابية، إلى حالة صمت تام أمام الانتصارات التى حققها الجيش السورى على هذه التنظيمات بفضل التدخل الروسى الذى أعاد هذه الأزمة إلى مسار الحلول الجدية، النتيجة التى عجزت التدخلات الأمريكية والغربية عبر سنوات عن تحقيقها فى البلاد العربية الأخرى توجه المجتمع الدولى إلى فتح قنوات التواصل مع مختلف القوى- روسيا- وعودة تصدر الحديث عن الحلول السياسية تعكس دورا قائما على فهم أعمق وأكثر جدية فى معالجة مأساة سوريا، للأسف هذا المستوى من الاستيعاب ما زال الغرب فى مواقف كثيرة عاجزا عن ممارسته تجاه مصر، باستثناء تصريحات هشة تصدر كل حين من مسئولين عن دعم مصر فى حربها على الإرهاب دون أن تترجم إلى واقع ملموس أو تغيير جذرى فى المواقف، خصوصا مع ازدياد تنبه العالم نتيجة الأحداث الدموية التى صدمته منذ العام الماضى إلى خطورة تمدد الإرهاب ونتائجه الكارثية التى قد تصيب أى مكان فى العالم دون تفرقة.
الجيش المصرى يحقق كل يوم نجاحات متوالية فى القضاء على المنابع الأمنية للإرهاب.
على الصعيد السياسى فإن الدعم العالمى لمصر بالتأكيد سيمكنها أيضا من التقدم بخطوات أسرع من أجل القضاء –بالتوازي- على منابع الإرهاب الفكرية.