كل المتأسلمين يتحدثون عن «الخلافة» ويقولون إنها السبيل لإنقاذ «حاكمية الله» على الأرض. يستخدمون ما ورد فى القرآن من كلمة «حكم» كدليل على حقهم فيما يقولون إنه إنفاذ حكم الله عبر نظام سياسى يحكمون به البشر عن طريق «الخليفة»، وهو فى زماننا يتخذ مسارات عدة فهناك أبوبكر البغدادى وينافسه أيمن الظواهري، وهناك طموحات أردوغان وطموحات مرشد الإخوان، وهناك على الجانب الآخر الوجه الشيعى «للإمام»، ومن المعلوم أنه من المفترض ألا يتعددوا وإنما تكون البيعة لخليفة واحد يكون أميرا لكل المؤمنين. فإن تصارعوا.. فلا تجب الخلافة. ويحاول المتأسلمون جميعا القول بأن حاكميته سبحانه وتعالى قد اشتقت من مصطلح «الحكم» أى إدارة شئون الدولة وإقامة سلطة سيادية تتحدث باسم السماء، بينما الرجوع إلى الآيات القرآنية التى وردت فيها كلمة «حكم»، وكذلك الرجوع إلى كتب التفسير المعتبرة يقودنا إلى اليقين بأنها وردت إما بمعنى «القضاء بين الناس أى الفصل فيما ينشأ بينهم من منازعات، أو بمعنى «الحكمة» أى التفقه والعلم، أو التصرفات الحكيمة، ولا نجد فى أى منها ما يوحى بعلاقة ما بالخلافة أو الإمامة أو بفرض سلطة سياسية أو سيادية على المسلمين.
ونتأمل عديدا من الآيات القرآنية. «يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا» (مريم – ١٣) ونعرف جميعا أن نبى الله يحيى لم يكن حاكما ولكن الله منحه «الحكم» وهو صبي. وموسى «ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزى المحسنين» (القصص -١٤) وموسى لم يكن حاكمًا. وسيدنا إبراهيم يدعو الله قائلا «رب هب لى حكما وألحقنى بالصالحين» (الشعراء – ٨٣) ويفسر البيضاوى الآية بمعنى أن إبراهيم سأل سبحانه وتعالى أن يمنحه كمالا فى العلم (تفسير البيضاوى – ص ٥١٩). وآيات قرآنية عديدة منها «ثم إلىّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون» (آل عمران- ٥٥) وأيضا «فالله يحكم بينكم يوم القيامة، ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا» (النساء- ١٤١) وآية أخرى «وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون، الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون» (الحج – ٦٨).
وبعد ذلك نجد أن العديد من الفقهاء المعتبرين يرفضون مبدأ الخلافة.
يقول الشهرستانى «إن الخلافة ليست من أصول الاعتقاد» (الشهرستاني- نهاية الأقدام). ويقول الجرجانى «إن الخلافة ليست من أصول الديانات والعقائد» (الجرجاني- شرح المواقف). والغزالى يقول «إن نظرية الإمامة ليست من المعتقدات» (الغزالي- الاقتصاد فى الاعتقاد). وأبو حفص بن جميع يقول «إن الإمامة مستخرجة من الرأي، وليست مستخرجة من الكتاب والسنة» (عقيدة التوحيد – ص١٥٤). والأمدى يقول «وأعلم أن الكلام فى الإمامة ليس من أصول الديانات ولا من الأمور اللابديات» (من لابد أى من الضروريات الدينية) بحيث لا يسع المكلف الإعراض عنها والجهل بها، بل إن المعرض عنها لأرجى حالا من الواغل فيها، فإنها لا تنفك عن التعصب والأهواء وإثارة الفتن والشحناء». وفى العصر الحديث نقرأ لجمال الدين الأفغانى «يبقى التاج على رأس الحاكم ما دام محافظا وأمينا على صون الدستور، وإذا حنث بقسمه وخان دستور الأمة، إما يبقى رأسه بلا تاج أو تاجه بلا رأس» (الأعمال الكاملة – ص٤٧٨). أما الإمام محمد عبده فيقول «الحاكم فى الإسلام مدنى من جميع الوجوه، أما الفكرة الشائعة عن توحيد الإسلام بين السلطتين المدنية والدينية فهى خطأ محض، ومن الضلال القول بأن الإسلام يحتم قرن السلطتين المدنية والدينية فهى خطأ محض ودخيلة على الإسلام» (الأعمال الكاملة- الجزء الثاني- ص٢٨٧) ويقول «إن الإيمان بالله يرفع الخضوع والاستعباد للرؤساء الذين استذلوا البشر بالسلطة الدينية.. فالمؤمن لا يرضى أن يكون عبدًا لبشر مثله» (الأعمال الكاملة- الجزء الثالث- ص ٤٣٠). أما الشيخ على عبدالرازق صاحب «الإسلام وأصول الحكم» فيقول «إذا كان فى الحياة الدنيا شيء يدفع المرء إلى الاستبداد والظلم ويسهل عليه العدوان والبغى فذلك هو مقام الخلافة» (ص٣٦).
.. وبعد آيات القرآن والسنة وكل هؤلاء الفقهاء قدامى ومعاصرين فهل من قول يمكن قبوله؟