صرح الأستاذ «حمدين صباحى» السياسى المرموق منذ فترة أنه يعمل مع أطراف سياسية متعددة على خلق حكم سياسى مدنى بديل.
وكان التصريح الذى أثار لغطا سياسيا وإعلاميا شديدا بالغ الغموض فى الواقع، لأن صاحب التصريح لم يبين لنا ماذا يعنى بالحكم السياسى المدنى البديل وهل النظام السياسى الذى اكتملت ملامحه تنفيذا للخطوات الثلاث لخارطة الطريق، ونعنى الدستور الجديد ورئيس الجمهورية الجديد ومجلس النواب الجديد، حكم مدنى أم لا؟
وأراد أحد المناصرين لدعوة «حمدين صباحى» أن يوضح الغموض الذى صاحب التصريح فقال -لا فض فوه- نحن لا نتحدث عمن يحكم مصر ولكن عن كيف ينبغى أن تحكم مصر!
وهذا التصريح فى الواقع محمل بادعاءات سياسية لا حدود لها!
وذلك لأن موضوع كيف ينبغى أن تحكم مصر سؤال الإجابة عنه واضحة تمام الوضوح، وذلك لأنه طبقا لنظام الديمقراطية النيابية تحكم الدول الديمقراطية من خلال دستور يحدد الحقوق والواجبات، وانتخابات رئاسية نزيهة وشفافة، وانتخابات نيابية لا تشوبها شوائب الإقصاء السياسى أو التزوير.
وكل هذه الخطوات تمت فى مصر المحروسة بعد إعلان خارطة الطريق فى ٣ يوليو.
والسؤال المطروح عن كيفية يمكن أن تُحكم مصر لو تعمق واضعه البحث لعرف أن علماء السياسة الغربيون كادوا يجمعون على أن نظام «الديمقراطية النيابية» حيث ينتخب الناس أعضاء لكى يمثلوهم باعتبارهم نوابا عن الأمة ولا يمثلوا دوائرهم فقط قد وصل إلى منتهاه، لذلك بعد ما ثبت أنه نظام عقيم لأنه تأكد فى بلاد غربية ديمقراطية متعددة -سواء كانت الولايات المتحدة الأمريكية أو إيطاليا أو غيرهما من الدول الأوروبية أن نواب المجالس النيابية غالبا ما يخدمون مصالحهم أو مصالح القوى السياسية المنفذة التى ساعدت على إنجاحهم.
ولذلك بزغ فى الأفق نموذج ديمقراطى جديد يطلق عليه «ديمقراطية المشاركة» Participatory Democracy حيث تشارك فى الحكم بإبداء الرأى فى السياسات التنموية والأمور العامة هيئات متعددة مثل النقابات المهنية والنقابات العمالية والخبراء المتخصصين ومراكز الأبحاث الجامعية وغيرها من منظمات المجتمع المدنى، بالإضافة إلى الأحزاب السياسية سواء القديمة منها أو الجديدة.
وذلك على أساس أن ديمقراطية المشاركة التى لا تقوم على «التمثيل» Representation- أى نواب يمثلون الأمة- أكثر فعالية من زاوية الممارسة الديمقراطية، وأكثر تمثيلا لمصالح الجماهير العريضة.
وبعد اطلاعى على عديد من تجارب «ديمقراطية المشاركة» فى عديد من بلاد العالم وخصوصا فى أمريكا اللاتينية وإفريقيا أدركت أن مصر قادرة بحكم تاريخها الدستورى العريق وتجاربها الديمقراطية المتنوعة على أن تبدع للعالم صيغة مبتكرة لديمقراطية المشاركة.
وقد أكدت رأيى مبادرة «حمدين صباحى» نفسه والتى طورت نفسها وقررت أن تعقد مؤخرا مؤتمرا اقتصاديا حاشداً تشارك فيه بالبحوث مجموعة متنوعة من الباحثات والباحثين المتخصصين تخصصا دقيقا فى مجالات اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية متنوعة.
وحين قرأت أسماء هؤلاء الباحثين تبين لى أننى أعرف غالبيتهم، وفيهم قامات رفيعة فى البحث العلمى فى تخصصاتهم، وفى الإنجاز الفكرى المتعمق.
وقد استبشرت خيرا حين قرأت الخبر، وأدركت أن المبادرة التى كانت غامضة تماما وقت إطلاقها أصبحت واضحة وضوح الشمس، وعلى الدولة التنموية التى يقودها رئيس الجمهورية «عبدالفتاح السيسى» وأجهزتها أن ترحب بها تمام الترحيب، وذلك لسببين على الأقل، السبب الأول أنها نموذج رفيع لديمقراطية المشاركة التى ندعو لها منذ زمن، وهى بذلك تتجاوز بكثير الممارسات السياسية البرلمانية التقليدية التى ما زالت متعثرة كما هو واضح فى أداء مجلس النواب الجديد.
والسبب الثانى الأهم أن استراتيجية التنمية المستدامة التى هى جوهر عمل الدولة التنموية فى مجال تخطيطها وتنفيذها بمشاركة القطاع الخاص لا يمكن أن تؤدى مهامها الأساسية بدون مشاركة إيجابية ورؤى نقدية من جميع مؤسسات المجتمع.
وحتى لا يكون حديثنا على سبيل التجريد فإنه يمكن القول إن رؤية التنمية المستدامة لمصر «٢٠-٣٠» التى أطلقها الرئيس «السيسى» وشارك فى وضعها عشرات الأجهزة والخبراء المتخصصون تحتاج إلى مشاركة واسعة فى مجال القراءة النقدية لها فى سبيل تعظيم إيجابياتها وتحاشى سلبياتها.
ولعل أهم سلبية هى ترديد غايات عظمى تستهدفها الرؤية بدون إيضاح المدى الزمنى المحدد لكل غاية، أو الموارد التى ستوضع للتنفيذ، بالإضافة إلى أهمية استخدام لغة التخطيط من زاوية المدى القصير والمدى المتوسط والمدى الطويل.
وديمقراطية المشاركة بهذه الصورة التى ألمحت إليها من شأنها أن تدفع الأحزاب السياسية القديمة وكذلك الجديدة والناشطين السياسيين ومنظمات المجتمع المدنى أن تبلور بدقة رؤاها التنموية التى ترى أنها أكثر فعالية من الرؤية التى تطرحها الدولة التنموية.
والواقع أنه إذا حدث هذا التفاعل الفكرى والسياسى الواسع المدى فمعنى ذلك أن الرؤية النهائية التى سيتم الوصول إليها هى وليدة تفكير أكثر العقول المصرية تخصصا وإبداعا، بالإضافة إلى إدماج الرؤى السياسية الملتزمة فى صلب الرؤية حتى تعود ثمار التنمية بشكل مباشر على الجماهير العريضة التى تعانى من الأمية والفقر والعشوائية وترجو الارتقاء بجودة حياتها، من هنا أنا أدافع بشدة عن أهمية القراءة النقدية للخطط التنموية، وعن منهج السياسات البديلة.