يقول "طفلُ القرية: سيد قطب" في كتابه الذي اخترتُ عنوانه ليكون عنوانًا لهذه السلسلة من المقالات: "طفلٌ من القرية"، أنه: نشأ في أسرة ليست عظيمة الثراء، ولكنها ظاهرة الامتياز، كانت في وقت من الأوقات عظيمة الثروة، ولكنها توزعت وتضاءلت بالميراث، وبقي لوالده قدرٌ لا بأس به منها، ولكنه كان يتناقص دائمًا، فقد كان والده قد صار عميد الأسرة المكلف بحفظ اسمها ومركزها، في الوقت الذي لم ينله من الميراث إلا نصيب محدود لا ينهض بما كانت تنهض به ثروة الأسرة مجتمعة، على حين لا يستطيع أن ينقص من تكاليف المظهر في الريف (شيئًا)، وكان هو– أي والده- متلافًا مضيافًا! (لاحظ كيف يتكلم عن والده بالسوء الذي سوف نفرد له مساحة من الكلام فيما بعد-إن شاء الله- لننظر كيف كان يكره والده بل ويحتقره، وفي المقابل كيف كان يحب أمه ويفضلها على والده، ويحترمها ويحترم عائلتها أكثر من احترامه لعائلة والده!) فزاد ذلك في التكاليف التي لا تحتملها ثروته، ولكنه حافظ على كل المظاهر والمطالب على (ربما يقصد: حتى!) اللحظة الأخيرة، وكانت والدته من أسرة مماثلة أو أعرق! (لاحظ أيضًا كيف يرفع والدته فوق والده ! ويرى أنها من عائلة أعرق من عائلة والده!)، وقد وقع لها ما وقع لأسرة الوالد حرفًا بحرف، ولكن زاد عليها أن اثنين من أخواله كانا قد أوفدا إلى الأزهر في القاهرة، شأن غالبية أبناء الأسر الريفية الثرية! (وهنا وصف عائلة والدته بالثراء، في حين نفاها عن عائلة والده!)، فأنشأ هذا في الأسرة نوعًا من الرقي العلمي بجانب الوجاهة الريفية (وهو ما يعطيها الفضل والسبق على عائلة والده!)، يضاف إلى هذا كله أن جده لوالدته كان قد قضى شطرًا كبيرًا من حياته في القاهرة هو وزوجته، حتى إذا عاد إلى القرية، أنشأ فيها بيتًا يقترب من بيوت العاصمة على قدر الإمكان في نظامه وتنسيقه وتقاليده ومستواه، وساعده المال على تحقيق ما أراد (وهو ما لم يتحقق لأسرة والده!)، ويضيف طفل القرية: "سيد قطب": فيقول: في هذه البيئة نشأ –يقصد نفسه-، وكل ما حوله يشعره أنه من وسط آخر غير وسط القرية! فلما ناهز السادسة من عمره فكر أهله في أن يبدأ حياة التعليم، وانقسم الرأي إلى: فريق يؤيد ذهابه إلى الكُتَّاب، ليحفظ القرآن، ويفوز بالبركة التي يفوز بها من يحملون كتاب الله على قلوبهم، وفريق يؤيد ذهابه إلى المدرسة الأولية، لأنها أرقى وأنظف، والقرآن يُعلَّم فيها كذلك إلى جانب العلوم الأخرى، وطال الجدل حوله وهو لا يدري! وأخيرًا انتصر فريق المدرسة (كانت أمه متزعمة لفريق المدرسة وهي من انتصر رأيها في الأخير) واستقر العزم عليها وأُخْبِر هو بهذا القرار فتلقاه بالقبول، ولكن بغير حماسة ظاهرة، فقد كان أروح لنفسه أن يظل في الدار يلعب مع أخته التي تكبره قليلًا، أو يلعب في الشارع مع لِدَاته (من هم في نفس عمره) الصغار، وقد كان –أي :طفل القرية- مدللًا بعض الشيء لأنه وحيد أبويه بجانب بنتين، هو أوسطهما فلم يتعود بعدُ التكاليف التي لا مفر منها في التعليم، ولاسيما أنه يسمع الناس يتحدثون بأن الكتّاب يقرص الأولاد –أي يضعف صحتهم ويعوق نموهم-، وأما المدرسة فقد كان يسمع عنها حديثًا آخر لا يجعله آمنًا فيها على العموم، ويضيف: ولم تمضِ الأيام حتى هُيئ للمدرسة، جئ له بطربوش بعد أن كان يلبس الطاقية، واشتُري! له حذاء بدل حذائه الذي كان "نصف عمر"، وفُصِّل له قفطان صغير من الشاهي بدل الجلابية، كان هذا زيًا مبتكرًا لا عهد للمدرسة به، جيء له به للترغيب والتدليل، وكان لهذا أثر حاسم في اتجاهه للمدرسة، فبسببها كان كل هذا العز والتكريم، ثم يستطرد قائلًا: وفي الصباح الأول ذهب به والده ومعه صديق إلى المدرسة، ولهذه المدرسة تاريخ .. سوف نذكره إن شاء الله -تعالى- في المقال القادم، وفي المقال القادم للحديث بقية .. إن شاء ربُّ البرية.
آراء حرة
سيد قطب .. طفلٌ من القرية (2)
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق