فى نهاية الخمسينيات من القرن الماضى ظهر كتاب لمؤلف إنجليزى شاب عمره أربعة وعشرون عامًا يكتب لأول مرة. الكتاب بعنوان «اللامنتمى» والمؤلف اسمه «كولين ويلسون»، وكل من الكتاب وصاحبه تحولا إلى ظاهرتين فى العالم كله.
تعبير «اللامنتمى» أصبح على ألسنة المثقفين فى كل مكان، وتحول إلى مصطلح يصف أنواعًا كثيرة من الفلاسفة والأدباء والفنانين والحركات الثقافية والفنية ومن الناس عمومًا. أما مؤلف الكتاب فقد تحول إلى نجم تباع مؤلفاته بالملايين وتترجم لمعظم اللغات الحية، خاصة أنه كان غزير الإنتاج يكتب فى مجالات كثيرة سلس الأسلوب سهل القراءة.
العالم العربى لم يكن استثناء بالرغم من أننا لم نعرف كولين ويلسون وكتبه إلا فى نهاية السبعينيات والثمانينيات عندما راحت «دار الآداب» البيروتية تترجم أعماله وعلى رأسها كتاب «اللامنتمى» الذى قرأته فى سن المراهقة فقلب حياتى رأسًا على عقب.
الغريب أن كتاب «اللامنتمى» عبارة عن تحليل أدبى كتبه طالب بكلية الآداب يدرس فيه نصوص أدباء مثل «هنرى باربوس وفرانتس كافكا وجيمس جويس وويليام بليك وت. ى. لورانس» وفلاسفة مثل «نيتشة وجان بول سارتر» وأعمال مثل «الإخوة كارامازوف» لديستيوفسكى، ومن شخصيات حقيقية مثل الراهب الهندى راما كريشنا، وشخصيات خيالية مثل «دون خوان» ليتوصل إلى فرضية تقول إن هناك نوعًا من الشخصيات فى كل عصر تجتمع فيه الصفات التى تجعله صورة صادقة لهذا العصر، قد يكون بطلًا مغامرًا فى عصر ما، أو ثائرًا فى آخر، أو عالمًا فى ثالث، فإن الشخصية التى تعبر كأفضل ما يكون عن عصرنا الحديث (النصف الثانى من القرن العشرين)، وهى شخصية «اللامنتمى». ولكن ما هى شخصية اللامنتمى هذا؟
مبدئيًا الكلمة ترجمة للتعبير الإنجليزى outsider التى تعنى الخارج، الغريب، المختلف، اللاجئ، الوافد، الطافى.
واللامنتمى كما يُعرفه كولين ويلسون «هو الإنسان الذى يدرك ما تنهض عليه الحياة الإنسانية من أساس واه، الذى يشعر بأن الإضطراب أعمق تجذرًا من النظام الذى يؤمن به قومه. اللامنتمى ليس مجنونًا، لكنه فقط أكثر حساسية من أولئك المتفائلين (صحيحى العقول). اللامنتمى يريد أن يكون حرًا، وهو يرى أن صحيح العقل ليس حرًا، بل عبدًا للمنطق السائد».
اللامنتمى إنسان لا يستطيع العيش فى عالم الطبقة الوسطى المريح المنعزل، أو قبول المعتقدات والأفكار السائدة. إنه يرى أكثر وأعمق وكل ما يراه هو الفوضى. إن المواطن الصالح، المنتمى، يرى العالم مكانًا منظمًا تنظيمًا جوهريًا يوجد فيه بعض العناصر المقلقة، أما اللامنتمى فإنه لا يرى العالم معقولًا ولا منظمًا من الأساس.
اللامنتمى والحرية كلمتان مرتبطتان. ومشكلة اللامنتمى الأساسية هى مشكلة الحرية. والإنسان يصبح لا منتميًا حين يبدأ فى التذمر من الشعور بأنه ليس حرًا.
اللامنتمى يدرك أن الناس جميعًا يعيشون فى سجن كبير، سجن العقل والدين والعادات والتقاليد والأخلاق والتاريخ والحزب السياسى الحاكم، ويدرك أنه مسجون مثلهم، لكن الفارق أنه مسجون يعترف أنه مسجون، ويسعى للهرب من هذا السجن.
عندما يتأمل اللامنتمى الحياة فإنه لا يعود يرى البشر كأفراد، ولكن يرى إرادة العالم التى تسوقهم كالنمل، ويرى عجزهم عن التخلص من ضلالاتهم وحماقاتهم.
اللامنتمى متشائم، ولكن تشاؤمه ليس سلبيًا، فهو يضع نصب عينيه أهدافًا أسمى من أهداف البشر الفانية، وعلى رأس الأهداف التى يسعى إليها اللامنتمى إصلاح الجنس البشرى وتنويره والتمهيد لفصيل أرقى من البشرية سيظهر فى المستقبل. إنه يؤمن بالسوبرمان، مثل نيتشه، وبالتطور. اللامنتمى الحقيقى هو شخص تقدمى.
هذه بعض أفكار كتاب كولين ويلسون التى طورها لاحقا فى العديد من كتبه اللاحقة مثل «ما بعد اللامنتمى» و«سقوط الحضارة» و«الشعر والصوفية» وغيرها. وهى أفكار تحولت إلى مفردات يومية فى الحياة الثقافية والفنية العربية خلال الستينيات والسبعينيات، والبعض راح يلعب بالمصطلح، مثل الناقد الأدبى الراحل غالى شكرى، الذى أصدر فى منتصف الستينيات كتابا عن أدب نجيب محفوظ بعنوان «المنتمى.. دراسة فى أدب نجيب محفوظ»، يطرح فيه فرضية أن محفوظ، على عكس الأدباء الذين يتحدث عنهم ويلسون، منتمٍ. والحقيقة أن الكتاب يحمل كثير من الادعاءات «القومية» و«الوطنية» التى اتسمت بها الخمسينيات والستينيات فى العالم العربى، لأن القراءة المتعمقة لنجيب محفوظ يمكن أن تكشف لنا بسهولة عن الكثير من الشخصيات والأفكار «اللامنتمية» فى أعماله، ولنتذكر فقط كمال عبدالجواد فى «الثلاثية» وحسنين فى «بداية ونهاية» وسعيد مهران فى «اللص والكلاب» وعيسى الدباغ فى «السمان والخريف» والكثير من قصص مجموعة «تحت المظلة» التى يفحصها غالى شكرى فى كتابه.
تعرفت على كتاب «اللامنتمى» من خلال صديق أكبر منى سنًا كان معيدًا بكلية الآداب قسم فلسفة، كان من «دراويش» الفلسفة الوجودية التى راجت أيضا فى الستينيات والسبعينيات من خلال أعمال الفرنسيين جان بول سارتر وألبير كامو، وكان التجسيد الأدبى الأمثل لها رواية «الغريب» وكتاب «أسطورة سيزيف» لكامو، أفضل وأجمل من عبر عن فلسفة الوجودية واللانتماء.
بعد ذلك بسنوات طويلة، عندما كنت أحرر قسمًا خاصًا عن السينما المستقلة فى مصر والعالم لمجلة «سينما جود نيوز» الشهرية لم أجد تعبيرًا أفضل من outsiders لوصف هؤلاء الفنانين الشباب المتمردين على السينما والثقافة السائدتين.