الجمعة 03 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

"حليم".. اليتيم الذي علمنا الانتماء

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
مرت منذ أيام قليلة ذكرى وفاة عبدالحليم حافظ الذى فارق دنيانا فى ٣٠ مارس عام ١٩٧٧، ورغم ذلك عاش فينا وعشقناه بفنه وأغانيه التى علمتنا الوطنية والحب والشجن، رغم أنه مات قبل أن نولد.. هذا الفنان الملهم الذى ماتت أمه بعد ولادته بأيام قليلة ثم لحقها أبوه قبل أن يُتم عامه الأول.. ليولد يتيما فقيرا مريضا، ولكن بقلب براح يساع الأمة العربية بكل شعوبها، لم يتولد من اليتيم الذى عانى منه حالة سخط وانتقام أو حقد وكراهية للمجتمع الذى نشأ فيه، على العكس اكتسب المهارة والذكاء وحرص على صقل موهبته الربانية بالدراسة، وتحول اليتم وإفتقاد لمة الأسرة إلى حب للوطن ككل وانتماء له، وتحول افتقاد الحبيبة والأبناء والدفء العائلى الذى حرمه منه المرض، إلى فيضان من المشاعر الرومانسية التى يضىء بها مشاعر المحبين ويربط بين قلوبهم بأغانيه الرائعة.. منذ طفولته والمحيطين به يشعرون بجمال صوته وموهبته، لكنه لم يرتكن إلى الموهبة وحدها بل حرص على العلم والتحق بمعهد الموسيقى العربية، ودرس «الأبوا» وهى آلة نفخ خشبية من الآلات الغربية الأساسية فى أى أوركسترا سيمفونى.. ورغم دراسته للموسيقى بشكل أكاديمى إلا أنه لم يقحم نفسه فى التلحين أو كتابة الكلمات كغيره من المطربين وخاصة فى زماننا!!.. بل كان مؤمنا بالتخصص وظل حريصا على أداء دوره بتوصيل الرسائل بصوته الدافئ الحنون.. وتميز بذكائه فى اختيار أعماله سواء الأغانى أم الأفلام، وكذلك اشتهر بالتنوع فى المواضيع والجرأة فى التجديد، ولم نجد فى أعماله إلا كل ما هو قيم وجميل.. حتى اختياره للقصة الرائعة «لا» للكاتب الكبير مصطفى أمين التى عشقها حليم، وكان يحلم بتقديمها قبل وفاته، لكن لم يمهله قدره لتحقيق هذا الحلم.. كان أكثر ما يميز حليم أغانيه الوطنية التى لم يستطع منافستها أى مبدع حتى الآن.. وكانت ثورة ١٩٥٢ فاتحة الخير له، كما كان هو تميمة الحظ للثورة وللرئيس جمال عبدالناصر، فقد تحول عبدالحليم بملامحه المصرية الصميمة وحالة الوهن التى كانت تبدو عليه نتيجة إصابة كبده، إلى صورة إنسانية حقيقية تؤيد القيام بالثورة من أجل شباب جيله، أما صوته الحنون وأغنياته الوطنية فكانت وما زالت معلما للوطنية والانتماء ومحببا للعروبة، فلولا أغانى حليم ما أحببنا الزعيم عبدالناصر كل هذا الحب، وما عاشت ثورة يوليو ٥٢ فى وجداننا ولكنه الفن الهادف والصدق والإخلاص.. ورغم رقة صوته إلا أن فيضان الإحساس خلق حالة من الوعى الوطنى للوقوف ضد أعداء الوطن وفضحهم.. فكان عبدالحليم سلاحا قويا ضد الاستعمار وأعوانه بالأغانى المحفزة للنضال والجهاد فى سبيل الحفاظ على ذرات ترابنا، وتعتبر أغانيه تسجيلا للتاريخ المصرى خلال الفترة الزمنية التى عاصرها، لم يقم بهذا الدور طمعا فى الحصول على المال أو لتحقيق الشهرة، ولكن لإيمانه بوطنه وبالثورة وأهدافها وقائدها، فكانت الأغانى خير معبر عن أحاسيسه الفياضة، لذلك عاشت أغانيه وما زلنا لا نعرف سندا للاصطفاف الوطنى إلا بها.. هذا اليتيم الذى علمنا وما زال يعلم الأجيال تلو الأجيال حب الوطن.. فى حياته آيات لمن يريد التفكر، فمن اليتم والفقر إلى صداقة الملوك والرؤساء، من إنسان حرمه المرض من الحياة الطبيعية بالزواج والإنجاب، إلى أن أصبح النجم الذى لا يطال من بنات وسيدات جيله والأجيال اللاحقة، يدعو الإنسان الله أن يهبه الولد الصالح ليدعو له بعد مفارقة الحياة، لكن حليم الذى لم ينجب رزقه الله بالملايين التى تدعو له رغم مرور عشرات السنين، وبعد مرور ٣٩ سنة على وفاته إلا أن السرادقات ما زالت تقام للتعازى فيه والمئات يزورون قبره حاملين الورود رغم أنهم ولدوا بعد أن ترك حليم الحياة.. فحكاية حليم وقصة حياته أمل لكل يتيم ودرس حى يستطيع بتأمله أن يبنى نفسه ويعثر على ضالته من خلال موهبته أو ما ميزه الله به.. كذلك الشباب الموهوبون الذين يتحججون بعدم المساندة.. فلم يكن لحليم سند إلا الاجتهاد والعمل اللذين جعلاه على قمة الفن العربى، وفى قلوب الملايين التى تعشقه رغم اختلاف الزمن.. حليم درس لمبدعى زماننا، فنحن نعيش زمن الفن المسلوق وأغانى الإفيه أو الاقتباس والتقليد، لذلك لا تحلو أوقاتنا فى النجاح أو الانتصار أو الاحتياج إلى وحدة الصف إلا بالرجوع إلى أغانيه، والتى يحاول شباب المطربين تحقيق ذاتهم والدخول إلى قلوب المستمعين بغنائها.. ولكن يظل الأصل هو المتصدر لقمة القلوب والمشاعر، ويظل ما يميز حليم على مر الأجيال هو حالة الصدق والمشاعر النبيلة التى جعلته الونيس فى كل اللحظات الإنسانية فى الفرح والحزن والانتصار والانكسار.. هو حكاية شعب لذا سيظل داخل قلوب الشعب.