الأحد 22 سبتمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

حالة وإحالة!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بقليل من النزق، يمكنك معرفة اتجاه الريح، وبكثير من التوقع يمكنك وضع يدك على الخلل الذى أصاب علاقات الناس فى مقتل، فالمصريون الآن غير المصريين الذين رافقوا رحلة صعود وطنك التنموية الضّاجة والمرفقة بمصابيح الاستنارة، حيث كانت الجدية تصبغ ألوان الحياة على اختلافها، من الموسيقى والغناء، إلى التصنيع والابتكار ومن كرة القدم إلى تصنيع الصواريخ، ومن المصانع الصغيرة إلى المجمعات الصناعية العملاقة ومن مراحل التحدى إلى بناء السدود، وتحويل مجرى النهر ونقل أبوسمبل من مكان لآخر، دون فقدان ملليمتر واحد يصيب شروق الشمس على وجه الفرعون الأعظم بخلل، إلى ملحمة القنال واسترداد الحقوق المغتصبة، ثم فاصل قليل من استرخاء يجعل الأعداء ينفذون من ثقوب العيوب، ثم «بروجى» إفاقة لا ينقصه إحساس بعزة أو كرامة قبل أن يصبح الوطن بعد فاصل الانتصار معروضا برسم البيع على قارعة الطرقات الدولية وأسواق النخاسة، والتكاتف مع العدو الأوحد على سيماء الحاضر الذى أصبح غائما ومصابا بعسر الرؤية وضبابية الهدف.
مع الانقلاب المعرفى وشحوب الأوراق يتحول الوطن إلى فقاقيع ملونة، تمور الغيابات المنطقية للنتائج وراء حضور الهزال المعرفى، وتختبئ القوارير من عتمات اللحى ويتماوه الاغتراب فى النفوس، ويصبح الحتف لغة حاضرة بلا تصنيف وتشيع أخلاق البيت الكبير للمرقد الأخير، ويصبح سهلا أن يكون المرء بلا ضفاف، وأن يلجأ وحده للاصطفاف وراء مرض التوحد تخلصًا من آفة التفكير فيما كان وما ينبغى، وتصبح للفراشات أجنحة ثقيلة تمنعها من التحليق وتقاوم رغبتها فى الانعتاق وتزداد التخوم غربة ويصبح الوطن مركز طرد مركزيًا من البلعوم حتى أطراف الهتاف، ويبدو المستقبل رهين المحبسين، والحاضر أسير أحلام اليقظة التى لم تعد يقظى مثلما لم تعد رغبات الخروج تمثل أنشودة أو إصحاحًا للقانطين، وتستمر الإحالات الجنسية جحيما للراغبين والمتسللين فى جوار الأحلام المتعبة، ويستمر اللهث المسعور يتنامى ويتفرع حتى مطلع التلاشى.
تلك ما عادت أخلاق فرسان نبلاء، أصبح سهلا أن تكون منزوع الضمير والأهلة، ولا شيء يمنع عنك جنون الارتياب ولا مجون اليأس أو تساقط العقول من النافلة الصغرى إلى حيث يثب النفرى فى وجهك المتعب هاشًا باشهًا مندفعًا كحالة الهيولى التى ترافق مظنتك الخارجة من عمق المستحيل إلى ضفاف التورق والانقسام متشظيا ومدببا وكثير التعاريج المحلاة بأقماع السكر الخارجة من ذكريات العدم والسفسطة.
كان المصريون قوما آخرين، يغنون لله ويثقون فى الحب ويقفون احتراما للفضيلة، ويأنسون لحداء الصحارى المقفرة تحت أشعة القمر، لم يكن أحد يخشى أحدا أو من أحد، أو يلتبس من شيء، كان الوضوح غالبا ومنتصرا على غموض القصائد الموشاة بالانفصام، كما كان الياسمين المزهو برائحته الفواحة منتشرا بين المنازل والأهلة وعتبات الحبيبات اللواتى لم يسمحن لك بالغياب فى شقوق الذاكرة.
تلك ما عادت جنوبك ولا شمالك.. لا شرقك ولا غربك، ليس أكثر من حالة تمازج عابثة تقف بينك وبين رغباتك الملحة فى الانصراف وحيدا على طريق وحيدة تهددها مخاوف التلاشى والانزياح، إلى حيث «طاغور» يطل عليك من علياء سكونه المشمس، وحيث يلعن «فان جوخ» زيف الورود البلاستيكية بوردته الشاحبة التى تمعن فى الارتحال المزوق بعرائس المولد المتيبسة.
تلك ما صارت يمينك التى تكتب بها عن يسارك المفقود، ولا فؤادك المثقوب بذكريات أيام الوهج، حيث كان ضميرك لا تفتته الغواية ولا تدنسه المتشحات بأوراق البهجة السرية خلف ارتيابك الظامئ لألوان المسرة، كما لا توترك المغانى فى ليل الغوانى، ولا يستطيب الفرح كما يليق بفارس لم يلق أعداءه الكامنين له خلف الزوايا الممزوجة بالأساطير، وكما يليق بك على صهوة جوادك الخشبية وأنت تمارس فروسية «سرفانتس» الخشبية متقاتلا مع طواحين الهواء التى لم تخل من مضمون عبثى على سنام جمل أرعن يطارد ظلاله عبر البادية، ويحاول الوصول لمضارب الحبيبة التى لم تلقها عشية ما كنت بلا حيلة سوى بلقط الحصى والخط فى التُرب مولعًا.. وعلى مدد شوفك الذى لم يعد رائيًا ولا مستلهمًا أحدًا من فرسان السماء.
أنت ما عدت سوى شبح ضال يحاول استنطاق بنى الأكرمين ليعيدهم إلى صراط المحبة، لكنهم لا يفيقون ويمنعون الماعون ويمحقون الخلاص بأصابعهم الدامية ويطاردون بقايا العنبر فى جوف الحوت.