الكذب مفتاح النجاة.. تظن بعض الأنظمة السياسية، خاصة فى البلدان العربية التى تجد متعة فى تأليه الحاكم.. أن الكذب على الشعوب وعدم كشف الحقائق أمامها هو ما يضمن بقاءها واستمرارها أطول وقت ممكن.. وتصدق الشعوب هذا الكذب حينًا إلا «قليلا».. وطبعًا القليل الذى لا يصدق الكذبة يصبح خائنًا وعميلًا وممولًا ويكره الاستقرار، وفى أحيان أخرى يعمل على قلب نظام الحكم.
ولا تفكر الأنظمة التى تعتمد الكذب أسلوب حياة.. كيف سيكون رد فعل الشعب عند معرفة الحقيقة؟! ولعل الكذبة الكبرى التى عاشها الشعب المصرى كانت عام ١٩٦٧، وكان تأثيرها عنيفًا لأنه طال مبادئ وأخلاق هذا الشعب واستمر نحو ستين عامًا.. عندما قال النظام وقتها للشعب عن الهزيمة أنها انتصار، بينما تعرض الجيش المصرى لهجوم عنيف فى سيناء من جانب القوات الإسرائيلية، واحتلت سيناء وانتهكت الأرض وكانت نكسة وليست مجرد هزيمة.. ولكن ما قيل للشعب المصرى وقتها عبر وسائل الإعلام إن مصر انتصرت انتصارا ساحقا، وهزمت إسرائيل شر هزيمة، ووقعت طيارات وفجرت دبابات وأسرت قوات.. وما هى إلا ساعات قليلة وعرف الجميع الحقيقة عندما تكشف الأمر وبوضوح شديد، مما خلف نكسة ليست فقط على المستوى العسكرى وإنما أيضا على مستوى الأخلاق والثقافة والقيم والمبادئ والاقتصاد، أصيب الشعب المصرى بإحباط وانكسار شديد، انعكس على كل جوانب الحياة، وهو الانحدار المستمر حتى يومنا هذا، بحسب آراء الكثير من المحللين والخبراء والمثقفين.. وأعتقد أن «الكذبة» كانت هى السبب فى ذلك، لأن فرحة المصريين كادت تعانق السماء السابعة عند سماع خبر الانتصار الكاذب على إسرائيل، والحقيقة سقطت بهم إلى سابع أرض، وأعتقد أنه لو كان المصريون علموا الحقيقة من أول لحظة لكان أفضل كثيرًا لهم وعلى الأقل لم يتعرضوا للفرحة القوية ثم الحزن الفاجع فى وقت واحد، وكأنهم حدثت لهم عملية «بسترة» وكانت الحقيقة رغم قسوتها لن تتسبب فى هذا الإحباط الشديد والانهيار النفسى العميق الذى حدث.
فى هزيمة يونيو انكشف الكذب بعد ساعات، ولكن هناك كذبًا آخر يتم الكشف عنه بعد حين، وهذا يعنى أن هذا هو مصيره المحتوم.. بما يخلفه من إحباط وانهيار بعد معرفة الحقيقة وأحيانا.. «ثورة».
نظام مبارك كان قوامه الكذب.. استطاع أن يكذب على المصريين ثلاثين عامًا ولعل الناس فى سنوات حكمه الأخيرة كشفت كذبه فلم تكن تصدقه فى شيء، كانت كل الحكومات فى عهده كاذبة، وكان الاستقرار كاذبًا، والأمن والأمان كاذبين، صحيح أنه كانت توجد «دولة» ولكنها كانت هشة لم تستطع الصمود أمام أى أزمات أو محن، بدليل الاقتصاد والتعليم والصحة والبنية التحية التى تبين أنها كذب فى كذب، ونحن فى سنوات الحصاد الآن.
يقول البعض إن فى عهد مبارك كان الأمن قويا والأمان متوفرا، تقدر تمشى الفجر دون أن يَمَسّك أحد، ولكن أى شخص يطلع على صفحات الحوادث فى آخر عشر سنوات سيجد أن جرائم السرقة بالإكراه كانت ظاهرة تزداد يومًا بعد يوم، وكذلك الاغتصاب وحوادث القتل البشعة والتى كانت تحدث من أجل السرقة فى أكثر أماكن مصر رفاهية ورقى، والمفروض أمنًا، لأن الأمن فى السنوات الأخيرة كان أمنا سياسيا وليس أمن شارع، وقد تفرغ وزير الداخلية سنوات كثيرة فى البحث لجمال مبارك عن عروس.. وفى مراقبة هذه العروس والبحث فى ملفات عائلتها عند وقوع الاختيار على فتاة بعينها، كما كانت مهمة الداخلية فى السنوات الأخيرة هى ترتيب الأجواء لتولى «جمال» الرئاسة وحماية الأسرة الحاكمة والحاشية وليس أمن وأمان الشارع المصرى.. وانكشف الكذب وقوة الأمن الخارقة التى تبين أنها وهمية وضعيفة لا تعرف غير القتل عندما انهار الأمن فى ساعات قليلة يوم ٢٨ يناير.. تبين أنهم لا يستطيعون حماية أنفسهم من غضب الناس، انكشف كذبهم فى قضايا التعذيب وعلى رأسها قضية الشهيد «خالد سعيد» فكانت الثورة.
إحباط الناس عند اكتشاف الحقيقة يؤدى إلى نتائج كارثية.. وهو ما يحدث كل يوم، عندما تقول الحكومة إن مشروعًا ما سوف يحقق مكاسب بالمليارات وسوف يعم على البلاد والعباد بالرخاء ويحدث العكس.. لك أن تتخيل مدى الإحباط، وعندما تروج أن أزمة كبرى فى طريقها للحل وتمر الأيام وتأتى الأخبار من الخارج تؤكد كذب ذلك تمامًا، كما أن الواقع على الأرض أيضا يكشف أن الأزمة تضاعفت حدتها وأنه لا حل يلوح فى الأفق.. فلك أن تتخيل حجم الغضب.. وعندما تقول إن سياستها الاقتصادية تؤدى إلى انخفاض الأسعار أو على الأقل استقرارها ومن أجل عيون محدودى الدخل، فيرتفع الدولار وتنهار العملة وترتفع الأسعار بشكل جنونى ويزداد الفقير فقرًا.. والمواطن المطحون طحنًا.. فلك أن تتخيل مستوى الانهيار.
وتظن الحكومات أيضا أن الكذب ينجى حتى فى الأزمات التى تمتد إلى خارج الحدود، مثل تفجير الطائرة الروسية، ومقتل الطالب الإيطالى، لم تصدق روسيا ما صدر عن الحكومة المصرية بشأن ما حدث لطائرتها، وبالمثل لم تصدق إيطاليا ما تم الترويج له عن مقتل طالبها من أول وقوع الجريمة وحتى الآن.. فإن الدولة بمسئوليها وجهاتها السيادية تعلم منذ اللحظات الأولى حقيقة ما حدث فى الواقعتين فور حدوثهما، ولو أن مصر اعترفت سريعًا بما حدث بشكل صريح وواضح ومباشر وبالتفاصيل كان الأمر سيختلف كثيرًا لصالحنا، يكفى أن يشعر العالم أن لدينا مصداقية وقوة الاعتراف بالخطأ، وعلى الأقل سنكسب احترامهم بدلًا من سخطهم واستنكارهم وأيضا سخريتهم.. ولكن يبدو أن كذب الحكومات والأنظمة غير مرتبط بشهر إبريل فقط.. إبريل بريء من الكذبة.