كل أطفال قريتى تقريبا، وكل أطفال القرى المجاورة لنا هناك فى الصعيد الجوانى تعلموا فى مدارس كان يطلق عليها «المؤسسة»، لم نكن ونحن صغار نعرف معنى محددا لاسمها، ولم يشغل بالنا قط أن نسأل عنه من الأصل، وكانت معظم الخدمات سواء العلاجية أو المعاشات أو التأمينات يتلقاها أهلنا من مكان واحد غالبا كان يطلق عليه «الوحدة»، فيما نذهب لإحضار الدقيق والسكر والشاى والزيت والعدس والصابون من «الجمعية» -الاستهلاكية- كان اسمها هكذا، ويذهب الفلاحون لاستلام السماد -يسمونه حتى الآن الكيماوى- والبذور التقاوى من «الجمعية الزراعية»، هذه الأشياء جميعها وفيها إشارة دالة وحضور قوى لرمزين -الدولة التى أسست- وفكرة الجماعة التى تربط الناس بموظفى الدولة وكياناتها، كل هذه الأشياء تلاشت تقريبا بداية من أوائل عصر السادات، وأكمل عليها مبارك حتى لم يعد يشعر -المواطن فى قريتى- بأى علاقة أخذ من الدولة، كل ما يشعر به هو «الدفع فقط»، يعنى هوه دلوقتى بيروح المرور عشان يدفع نظير تجديد الرخصة، وبالمناسبة لا أعرف معنى أن أدفع نظير استخدام لوحة معدنية للسيارة، هذه اللوحة لا يتم تجديدها فلماذا أدفع لها فى كل مرة أجدد فيها رخصتى، وأدفع ويدفع المواطن نظير استخدام الكهرباء والمياه والزبالة اللى ماحدش بياخدها أصلا، وتستقطع الحكومة أكثر من نصف راتبى نظير علاج لا أتلقاه، وتأمينات -بيدوخ زمايلنا اللى خرجوا معاش حتى يحصلوا عليها- وضرائب غريبة لا نعرف لها معنى ويحتار زملاؤنا فى الإدارات المالية فى تفسيرها، ثم ندفع بأرواح أبنائنا فى الخدمة الوطنية، وبعدها ندفع ما تبقى منها بحثا عن واسطة تبحث لنا عن وظيفة ندفع ثمنها إن وجدناها، وتحولت العلاقة بين النظام -الدولة والمواطن- إلى علاقة أخذ من طرف واحد، حب من طرف واحد، حتى يتحول فى لحظة إلى لا شىء.
لم أنتبه إلى ذلك من قبل، ولكن وأنا أدخل إلى عامى الخمسين بقدمى اليمنى تلاحقها اليسرى خطفتنى أغنية عمنا مصطفى الضمرانى وحلمى بكر وعليا التونسية -ما تقولش إيه إدتنا مصر- ووجدت من يجلس بجوارى يردد وما أقولش ليه؟! هوه السؤال كمان حُرم؟!
ظللنا لسنوات نردد هذه الأغنية التى كتبها الضمرانى قبيل حرب أكتوبر وبالمصادفة أذاعوها فى أول أيام الانتصار عندما بحثوا عن أغنية مناسبة، وكانت جاهزة، لعبنا بعواطف الناس لكن -الجحود- من الحبيبة والأخذ عمال على بطال جعل بعضنا يسأل، وسيسأل الباقون اليوم أو غدا.
سرحت فى كلام صديقى الشاب الذى يعمل بمجال المقاولات وهو يردد: أنا خدت إيه من أم البلد دى، اتعلمت على حسابى، وخدمت الوطن ثلاث سنين، وطلعت مالقيتش وظيفة، اشتغلت بميراثى من والدى فى العقارات، كل يوم يغلوا الخامات والأسعار والضرايب عمالة تزيد.. الأرض بنشتريها بالملايين، والخامات مثلها، والبيع مافيش، حتى العامل النهارده بيقولك الدولار زاد، اتجوزت من ميراثى، ودخلت ابنى مدرسة خاصة كل سنة تزود المصاريف على مزاج أصحابها وبندفع دروس خصوصية بالكوم، مابركبش المواصلات العامة، لأنى باشتغل فى الصحرا، وبالبس على حسابى، وباكل واشرب على حسابى، وباروح السينما على حسابى، يبقى أنا خدت من أم البلد دى إيه؟! هتقول ما هو بتاع المرور واقف ينظم لك الشارع، طب خش شارع العشرين وإن كنت راجل أطلع منه قبل ساعتين تلاتة ده إن طلعت سليم؟! -ده اسم شارع فى فيصل-.
سرحت فى كلام الرجل لأجدنى مثله، باستثناء أننى تعلمت فى مدارس عبدالناصر، لم أحصل على شىء من هذا البلد، هذا الشعور يتنامى الآن عند كثيرين، وارجعوا للنكت التى أطلقها الشباب عقب خطف الطائرة إلى قبرص، شوفوا فكرة الفرح بأن المصريين اتخطفوا ورايحين بلد تانية.
لقد أخبرنى صديق عزيز بلديات من سوهاج أن عددا كبيرا من أصدقائنا القدامى ذهب إلى جورجيا، اشتروا أرضا -يبيعونها هناك بالهكتار- وهو ما يساوى فدانين ونصف الفدان، وأن الأرض رخيصة جدا وكل ما يلزمك عشرة آلاف دولار فى حسابك وانت رايح، تستطيع أن تشترى الأرض وتزرع وتربى مواشى وتنتج وتتجوز وتعيش وتستثمر، لقد سيطر الإيرانيون والعرب، ومنهم المصريون، على قرى كاملة هناك، وعدد آخر من الشباب يتوجه الآن إلى بولندا، أفضل من جورجيا من وجهة نظرهم لتبعيتها للاتحاد الأوروبى، ولسهولة زراعة القمح بها، وهكتار الأرض المزروع بالتفاح المثمر لا يزيد على ٥ آلاف دولار، ويسهل تصديره لدول مجاورة، واحد ورا التانى الشباب بيفر، واحنا لسه مش عايزينه يسأل «ما تقولش إيه ادتنا مصر» وكأنه هيسمع كلامنا، أقولها باختصار، هيسأل وهيسأل وحينما لن يجد إجابة -ولن يجد- لأننا دايرين نعبى البحر فى الغربال، ولأن فى العلاقة بين الحكومة والمحكومين ما فيش أبدا حب من طرف واحد.