السبت 23 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

"ريجيني" مش إيطالي ولا يفهم حاجة في الطلياني

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يسخر المصريون من أنفسهم، إن لم يجدوا ما يسخرون منه، يطلقون الضحكات، ويتبادلون النكات، لإسقاطها على الواقع، هذه الطريقة، وإن كانت سمة تميزهم عن سائر الشعوب فى التعامل مع العديد من القضايا، إلا أنها مشحونة بفلسفة عميقة، تحمل بين طياتها دلالات القدرة على ابتكار المفردات وبراعة التعبير عن الرأى فى أشد أوقات الكبت، بطريقة مغايرة للقوالب التقليدية المعروفة فى أوساط محترفى السياسة.
تجلت فلسفة التعبير الساخرة بدلا من البكاء على حجم السذاجة والسطحية، فى التعامل مع قضية مقتل الطالب الإيطالى جوليو ريجيني، الذى اختفى فى ظروف غامضة، مساء ٢٤ يناير الماضى، قبل العثور على جثته فى المنطقة المتاخمة لمدينة ٦ أكتوبر، جرى التعامل مع الأمر على طريقة «قفشات» أولاد البلد الذين يتندرون بها للتعبير عن السذاجة المفرطة، عبر نسج الروايات والنوادر بهدف وصف الأشياء بطريقة ساخرة، لعل أبرز تلك النوادر ما يتم تداوله فى جلسات النميمة حول أحد الأشخاص الذى انصرف ذات يوم من عمله مبكرا، متوجها إلى بيته، وعند دخوله العقار الذى يسكن به وجد ضجيجا وزحاما، حيث تناثر جيرانه من الرجال والنساء على السلالم، وما أن رآوه قادما، لاحقته نظراتهم المعبرة عن الاستهانة به، وعندما وصل أمام باب شقته سأل عن سبب غضب وتواجد الجيران وسكان الشارع، فقالوا إنهم ضبطوا الأسطى سيد الكهربائى «صاحب المحل اللى على الناصية» مع زوجته، فكان رد الرجل محفزا على السخرية منه، قال لهم «سيد دا مش كهربائى ولا بيفهم أى حاجة فى الكهرباء»، مفاد الرواية الساخرة أن الرجل ترك القضية الأساسية المتعلقة بشرفه وسمعته، وتوقف بسذاجة مفرطة أمام أمور آخرى، ليس لها تأثير على جوهر الموضوع. 
بهذه الطريقة جرى التعامل مع قضية «ريجينى»، فكان الأداء سواء الحكومى أو الإعلامى مثارا للسخرية والتهكم، فهذا الأداء لا يتسق بحال من الأحوال مع حجم المسئولية الوطنية فى التعامل مع القضايا الشائكة، فضلا عن أن التراخى فى الوصول للجناة أضاع الفرصة أمام تحسين صورة الدولة، كما أن ارتباك المسئولين أدى إلى إثارة الشكوك حول حقيقة الحادث فى إطار مغلف بالسخرية على طريقة «سيد مش كهربائى»، بما يشير إلى أن التعامل مع القضية تم بطريقة «ريجينى مش إيطالى ولا يفهم فى الطليانى».
القضية من ناحية أخرى فتحت شهية اللجان الإلكترونية «الإخوانية» التى وجدت فيها ضالتها لترويجها على نطاق واسع مع وضع البهارات المغرية لتداولها، عبر حملة منظمة، معلوم سلفا أنها غير بريئة، فهى تهدف إلى توجيه الاتهام لأجهزة الشرطة بالتورط فى قتل الشاب الإيطالى وتعذيبه داخل أحد مقار الاحتجاز، بما يفتح الباب على مصراعيه لإدانة الدولة المصرية، وهو ما جرى بالفعل.
تداعيات هذه الأزمة جعلت البرلمان الأوروبي يطالب الحكومة المصرية بكشف الحقيقة حول مقتل «ريجيني»، وعلى طريقة ضرب عدة عصافير بحجر واحد، لم يتجاهل الأوروبيون استخدام فزاعتهم الأزلية، لممارسة كل أساليب الابتزاز والضغط التى احترفوها، عبر إدانة الاختفاء القسري، وأحكام الإعدام الجماعية وبقية القضايا الوهمية التى يخترعها الإخوان من خيالاتهم، كما دعا البرلمان السلطات المصرية إلى التعاون مع إيطاليا فى التحقيقات الجارية، الأمر الذى وضع الجميع فى مأزق شديد نتيجة التعامل العشوائى.
فى هذا السياق، راحت صفحات التواصل الاجتماعى تعزف على أوتار تلك النغمة، نغمة تورط الداخلية فى الجريمة، فجرى اختلاق الروايات، وطرح السيناريوهات الركيكة، غير المتماسكة من الناحية المنطقية، فى أعقاب الإعلان عن مقتل أعضاء تشكيل عصابى تخصص أفراده فى انتحال صفة «ضباط شرطة» واختطاف الأجانب وسرقتهم بالإكراه، وأنه تم تبادل إطلاق النيران مع هذا التشكيل فى التجمع الخامس، مما أسفر عن مصرع عناصره بالكامل، دون الدخول فى مزيد من التفاصيل.
الداخلية لم تدل بتصريحات عن تورط هذه العصابة فى مقتل الشاب الإيطالى، وهذا ليس دفاعا عنها لكنها حقيقة لا بد من الإقرار بها، رغم كل ما جرى من أساليب للقفز عليها من قبل المتربصين ومحترفى الاصطياد فى الماء العكر، لكن هذا لا ينفى حقيقة أخرى، وهى أن الداخلية أخطأت فى التعامل مع الأمر، بالحديث عن العثور على متعلقات «ريجينى» وأوراقه الخاصة ومنها جواز سفره، كل ذلك أوحى بأنها تريد «الطرمخة» على القضية، بطريقة تقليدية لخلق صلة بين العصابة ومقتل الشاب الإيطالى لإغلاق الملف برمته، فى هذا السياق لا يمكن الميل لتصديق الادعاء بمحاولة «الطرمخة»، لأن هذه الطريقة بدائية كان يتقنها خفراء الدرك فى ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضى، لذا فهى لا تليق بالجهاز الأمنى وما لديه من خبرات فى مجال المعلومات، ففى اعتقادى أن أجهزة الدولة تريد أن تبعد الأنظار عن تحركاتها الفعلية للقبض على الجناة.
السيناريو الذى راج حول تورط التشكيل العصابى لم يكن مقنعا للسلطات الإيطالية، ومن الطبيعى أن يكون غير مقنع لهم بالمرة، خاصة إذا علمنا أن إيطاليا لديها دراية كاملة بأساليب العصابات فى التعامل مع الضحايا، والظروف التى تضطر فيها تلك العصابات للقتل، وبأى طريقة يتم بها القتل، وهذه الدراية لم تأت من فراغ، فهى بلد عصابات «المافيا» والجريمة المنظمة. 
جوانب أخرى مرتبطة بالقضية جرى إغفالها، ولم يتوقف أمامها أحد، تدور جميعها حول أسرار قدوم الشاب الإيطالى إلى مصر قبل ٦ أشهر من العثور عليه مقتولا، منها علاقاته المتشعبة مع قيادات النقابات العمالية المستقلة، ودورهم فى الحصول على تمويلات خارجية يعرفها الجميع على المستويين الشعبى والرسمى، وتهدف القضاء على الكيانات الرسمية، فضلا عن تردده الدائم على مقاهى تجمعات ما يطلق عليهم النشطاء، وصار عنصرا أساسيا فى تجمعاتهم، والأهم من هذا وذاك، هو السؤال الذى يشغل البعض، لماذا اختفى فى التوقيت الذى علت فيه وتيرة الهجوم على مصر بشأن ملف حقوق الإنسان، والتحضير الأوروبى الأمريكى لغزو ليبيا على غير رغبة مصر؟ الروايات المتعددة حول هذه القضية طرحت سيناريوهات أخرى، منها هل هناك جهات ما حرضت على الفعل؟ تساؤلات أرى أنها مشروعة، خاصة إذا علمنا بوجود سوابق لعب فيها الغرب دورا لإثارة الأزمات، وليس خافيا على أحد «فضيحة لافون» فى خمسينيات القرن الماضى، وأيضا إذا علمنا أن الشاب الإيطالى كان يقيم مع مدرسة ألمانية بشقة فى الدقى. هذه التساؤلات وغيرها أظن وليس كل الظنون من الآثام، أنها محل اعتبار لدى الأجهزة الرسمية فى الدولة.